يرى البعض أنه رغم جودة المستوى الفني لمسلسل عمر بن الخطاب إلا أنه لا يتناسب مع الهالة الإعلامية الضخمة التي حظي بها.. لكن المسلسل لم ينل هذه المبالغة في التغطية من قبل منتجيه بل من قبل من دعا لمقاطعته! إنها مفارقة محيرة كثيراً ما نمر بها.
هل أنت مع عرض أو منع مسلسل عمر بن الخطاب؟ هذا السؤال طرحته مواقع إلكترونية عديدة، وقد جهزت جدولاً لكي أحسب نسبة المعارضين والمؤيدين لأني توقعت أنها ستكون متقاربة. إنما بعد أن مررت بثلاثة مواقع، توقفت عن التسجيل لأن النتيجة كانت واضحة، وتابعت رصد الملاحظة في بقية المواقع.. النتيجة التي وجدتها في سبعة مواقع، هي أن الغالبية تقول إنها ضد عرض المسلسل! وتتفاوت هذه الغالبية من ساحقة إلى نسبية.. ويبدو من التعليقات أن جزءاً كبيراً ممن هم ضد عرض المسلسل يتخذون هذا الموقف من باب الاحتياط لأن في المسألة خلافاً فقهياً، وهم يريدون تجنب الشبهة حسبما أشاروا.
ورغم كل ذلك فكافة المؤشرات والتعليقات الإعلامية تشير إلى أن المسلسل يحظى بأكبر متابعة في الثلث الأول من رمضان. وسننتظر لنر كيف سيتعامل كثير ممن يرفض عرض المسلسل بعد نهاية الحلقات وماذا سيكون موقفهم.. وربما ننتظر بضعة شهور أو أعوام لنلاحظ انقلاب معادلة المنع والسماح. فالتجارب السابقة، مثل فيلم الرسالة، تؤكد أن المعارضين سيتقلصون لدرجة أن تصبح نسبتهم ضئيلة، حين يجدون منافع إيصال سيرة شخصية من أعظم شخصيات التاريخ، عبر قالب فني مشوق يفوق تأثيره كثيراً مما تقدمه الكتب والندوات والمواعظ.. عدا عن أن ثقافة المنع التي تشكل جزءاً من ثقافتنا لن تنجح عملياً في زمن ثورة الاتصالات والمعلومات. فالذي يواصل المنع سيعزل نفسه بنفسه.
قبل أشهر كتبت أن إعلان مقاطعة معرض الكتاب بالرياض كان مغرياً للحضور.. لقد نجح المقاطعون في إحضار فكرة معرض الكتاب في عقول الناس، وهذا أهم مطلب في الدعاية والإعلان، لكن المقاطعين فشلوا في إقناع الناس، ومن ثم جاءت دعوى المقاطعة بنتيجة عكسية لمزيد من الإقبال. فلا أحد يستطيع أن يقنع الناس بعدم قراءة كتاب لأنه يؤثر في عقولهم الضعيفة، لأنه لا أحد يعتقد أن عقله ضعيف.. وللطرافة، يبدو أن عدداً من دعاة المقاطعة حضر المعرض!.
عندما حجبت حكومات عربية مواقع التواصل الاجتماعي زاد الاهتمام بها كما يحصل للكتاب المحجوب. ففي استبيان “كلية دبي للإدارة الحكومية” عن مستخدمي فيسبوك في تونس ومصر أظهر 60% منهم أن الحجب أثناء بداية الاحتجاجات الشعبية (قبل عشرين شهراً) أدى إلى دعم الحركات ودفع الناشطين لاتخاذ موقف أكثر حسماً وأساليب أكثر ابتكاراً. وإذا كانت بعض الحكومات ترى بأن لها مبرراتها في حجب مواقع معادية، فما هي مبرراتها في حجب شبكات التواصل بين أفراد شعبها!؟.. ويبدو أن جميع الحكومات العربية أدركت خطورة حجب هذه المواقع فأطلقتها، حتى أكثرها قمعاً وهو النظام السوري حيث كان الفيسبوك محجوباً حتى فبراير العام الماضي عندما رفع الحظر عنه.
فالأنظمة التي تحجب مواقع التواصل الاجتماعي، هي في الوقت نفسه تحفز الناشطين لمزيد من التحرك، فهل المحصلة خسارة أم ربح للنظام؟ والنظام الذي يمنع كتاباً معيناً هو في نفس الوقت يعطى هذا الكتاب أهمية ربما لا يستحقها. إنها دعاية مجانية يحلم بها كل ناشر وكل مؤلف تجاه كتبه التي لا تحظى باهتمام الجمهور أو زيادة جماهيرية تلك التي لها شعبية.
أعرف صديقاً تفاجأ مرتبكاً حين سُمح لكتابه بالتوزيع، وقال لي إنه لو كان متوقعاً ذلك لغيّر في تصميم الغلاف وعنوانه وتوزيع المواضيع وبعض سمات الإثارة للكتاب.. كم من المضحك أن يخيب أمل إنسان لأن كتابه سمح بنشره! فلقد عوَّل صاحبنا على قرار المنع كدعاية لانتشار كتابه! هذا الصديق وبكل حسرة، لا يظن أن أكثر من بضعة أشخاص قرؤوا كتابه، ولو أن كتابه منع لربما تراوح قراؤه في حدود بضعة مئات، فالكتاب بالأساس نخبوي، وربما هذا ما دعا الرقيب إلى غض النظر عنه!.
الحكاية ليست اكتشافاً جديداً، فمنذ القرن الأول من ظهور الطباعة لوحظت هذه المفارقة.. يذكر أن ملك فرنسا هنري الرابع قال عن كتابين هجائيين أحدهما ضده والآخر ضد نظامه: “أرى القضاء عليهما بالصمت بدلاً من الملاحقة التي كانت غالباً سبباً لنشرهما أكثر”.. وفقاً لكتاب “تاريخ الرقابة على المطبوعات “ لمؤلفه الفرنسي روبرت نيتز.. إلا أن فرنسا ذلك الوقت وحتى منتصف القرن التاسع عشر كانت لديها رقابة صارمة جداً، فرغم إدراك أصحاب قرار الرقابة بعدم جدوى الرقابة في منع ظهور الأفكار، فإنهم يظنون أنه يمكن عرقلتها وتأخير ظهورها. فالعملية مؤقتة، والمؤقت هو لعبة السياسي.
لكن، لماذا يفشل المقاطعون في إقناع الناس بالمقاطعة؟ ليس فقط -كما ذكرت- لأن لا أحد من الناس يقتنع أن عقله بهذه السذاجة التي تجعل منتج فكري أو فني يغير قناعته بعشية وضحاها، بل أيضاً لأن دعاة المقاطعة في الغالب يناقضون أنفسهم ويتابعون ما طالبوا الناس بمقاطعته، كما حصل مؤخراً في معرض الكتاب في الرياض.. وكما يحصل في المعارضين لعرض المسلسل الذين نقابلهم.. وكما يحصل فيما نتذكره من الإعلاميين الذين يحتفظون بالنسخ المصادرة لأنفسهم.. وهذه أيضاً حكاية قديمة حسب كتاب نيتز الذي يوضح أن القضاة في القرن الثامن عشر كانوا يحرقون كتباً مزيفة ويحتفظون لأنفسهم بالنسخ الأصلية المدانة.
المسألة جلية منذ قرون: المنع (المقاطعة أو الرقابة) لا يستطيع مواجهة فضولية المتلقي، فإذا كان هذا منذ بداية زمن الإعلام الورقي فكيف سيكون حاله في زمن الإعلام الإلكتروني، حيث الأجهزة محمولة في جيوبنا؟.. وكثير من قرارات المنع (الرسمية أو الشعبية) تنسى أن أغلب أنواع الرقابة والمقاطعة للمنتجات الفكرية والفنية والنشاطات الثقافية هي حماقة لا جدوى منها ولكن تفعلها وقد تزيد من حدتها، لأن هذا جزء من طبيعتها وطريقة تفكيرها، رغم أن الفئات الشعبية التي طالبت بمقاطعة هذا المنتج أو ذاك قد تكون أول المتابعين له.
alhebib@yahoo.com