تُؤذِيني إلى النخاع ممارساتٌ سلوكيةٌ عديدةٌ تنْبئُ عن (تخلّفِ) أصَحابِها ذِهناً وتَربيةً وإحسَاساً. وسواءً كان المسيَّرُ لتلك الممارسات إرادةَ القَصْدِ، أم عَشْوائيةَ السلوك، أم (ثقافةَ) الطبَّع، فهي تَصبُّ أخيراً في رافدٍ واحد اسمُه (التخلّف)، وأنعتُه هنا تَعْريفاً بأنّه أيُّ فعْلٍ تُنْكِرهُ الفِطْرةُ السويّةُ ويُقْصِيهُ الحسُّ السّليم !
دعوني أسوق لما ذكرت أمثالاً:
1) فمن الناس من يستصحبُ سلوكُه اليومي خلال هذا الشهر الكريم مواقفَ وممارساتٍ ملوثةً بما يضرّ ولا يسرّ، بحجة أنه صائم، فلا يُحسِنُ عمَلاً يكلَّف به، ولا يَعصمُ الآخرين من نفَثَاتِ لسانِه أو سَطْوةِ يده!
2) ومنهم من يتَعاملُ مع مِرْفقٍ من مرافقِ الدولة الذي أنْشأَتْهُ لخدمةِ الناس.. وكأنَّ بينه وبين مَنْ أنْشَأه أو أنُشِئَ من أجله خُصُومةً أو ثَأْراً ! فإذاً ذكَّرتْهَ أو أنْكَرتَ عليه سُوءَ فِعْله.. أسْمعَكَ من القَوْلِ ما تكْرهُ.. وقَذفَك بالتَّطفُّلِ فيما لا يْعنيك !
3) ومنهم مَنْ يمْثُل بين يدي الله مصلَّياً وهو يَرْتَدِي (حلة نوم) تنبعث منها روَائحٌ يهتزُّ من أذاها الخشُوعُ، ولو كان ذاهباً للقَاء من يرغبُه أو يرهبُه، لارتَدَى أبْهَى ما لديه !
4) ومنهُم من يُعامِلُ المرأةَ أو يتَعَامَلُ معها.. وكأنّها (مُفْردةٌ) من البَهائم، فإذا ذكَرَها، لم يُشرْ إليها بالاسم، بل وصَمَها بعبَارة (أكْرَمك الله)! وهي التي كرّمها الله.. من رِجْسِ الجَاهليةِ وظُلْمِ الجاهلين!
5) ومِنهْم مَنْ يُنْفِقُ المالَ يُسْراً على نَزوَاتِه.. الظاهر منها والمسْتَتِرِ، لكنه يَضِنُّ به عُسْرا على مَنْ يَعُولُ شَرْعاً.. أو علىَ دَرْبٍ من درُوبِ الخَيْرِ أو علىَ ذِي الحَاجةِ وابنِ السبيل!
6) ومنهُم من (يفوَّضُ) الشارعَ مُهِمةَ (تربيةِ) أبنائِه، فلا يأْمرُهم بفضيلةٍ.. ولا ينْهَاهُمْ عن مُنْكر.. فإذا ذُكَّر بذلك أو نُهِرَ اسْتنْكرَ وادَّعىَ من الفضَائل ما لا يَسْتحقُّ!
7) ومنهُم مَنْ يُقْلِقُ الجارَ بنِفَايَاتِه أو سَيَّاراته أو أذى أطْفَالِه، فإذا جُوبِهَ فعْلهُ بالمِثْلِ (احتَجَّ) بأنّ للشَّارع حُرْمةً تَتّصِلُ بحُرْمةِ أهله.. واسْتَشْهدَ بنَفْسِه مثلاً.. مُحلَّلاً بذلك ما أنْكَره على سواه!
8) ومنهُم من يَقُودُ سيَّارتَه مِثْلَ ريحٍ صَرصَرٍ عاتٍ.. وكأنّه سيخْرقُ الأرضَ عَرْضاً أو يَبْلغُ الجبَال طُولاً.. فإذا أنْكَرتَ عليه فِعْلَه، بادَركَ بسُؤالٍ رخيصٍ كطبعِه: (متَى كان هذا الشارعُ ملِكَ أبيك)؟!
وبعد..،
يبقَى (التخلفُ) مُصْطَلحاً مُثيراً للذهن وفنونِ الكلام في أكثر من زمان أو مكان.. لكن الصُّورَ التي أوردتُها عبْر هذا الحديث، وغيرها كثير جداً، لا تثيرُ جدلاً ولا خِلاَفاً في أيّ صقع من أصقاع الأرض، وهي تشيرُ إلى مواقفَ لا يُمارسُ أفعالهَا إلاّ كلُّ ذي فطرةٍ مريضةِ.. أو عقل سَقيم!