المسافة من المجمعة إلى الرياض ساعتان تبتلعني صحراء وتسلمني لأخرى، الطريق لا يخلو من الزحام، والليل مبلل بالهواء الحار وشيء من الرطوبة والدبق، مكيف التاكسي رديء وبه علة، وصاحب التاكسي يحدثني
ويضحك أحياناً، لكنها ضحكات مترعة بالبؤس والهم والأسى والتجربة الثرية، قال لي منذ 40 عاما هو هكذا أنا، استبدلت خلالها أكثر من سيارة وأكثر من طراز، رأيت وجوها كثيرة، وشوارع مختلفة، وأحياء وأماكن ومدنا وقرى وهجرا كثيرة ومتعددة، تزوجت، وأصبح لي أولاد وبنات وأحفاد بعضهم حي وبعضهم مات، ركب معي أناس كثيرون، بعضهم صامت، وبعضهم ثرثار، بعضهم تسمع منه كلاماً جافاً ونابياً، وبعضهم تسبح شفتيه بالذكر والتهليل والتكبير، بعضهم يمنح نفسه الأبهة والحضور، وبعضهم لا يكترث ولا يبالي وغير مرتب، ركب معي مجرمون ونشالون وأشكال شتى من البشر، لكن علاقتي مع كل هؤلاء ظلت في حدود الركوب والنزول، أتوقف بإشارة من أحدهم، وأمشي كما بدأت، إلا أن أكثر ما يزعجني ويعكر مزاجي أحياناً قول بعضهم لي بصلف وصفاقة، نحن دفعنا لك أجرة وسركما نريد، لم تركبنا بالمجان! هذه العبارة ومثلها كثير هي التي تصيبني بالوجع وتؤرقني بالكوابيس وتجعلني أسهو كثيراً أثناء القيادة، وأردف يقول كثيراً ما أسمع الركاب بعضاً من النكات والقصص والشعر لقتل المسافة والوقت، وحينها أختلس النظر إليهم لأجد بعضهم يستمع إلي جيداً بكل متعة ووقار واحترام، وبعضهم الآخر نائم أولا يبالي أو يمد لسانه قليلاً باستهزاء وتعجب، أضاف أنا غير مكترث بعقارب الساعة، ولا أعيرها أهمية تذكر، بعد ما أدركت في لحظة صدق داخلي أن متابعة الساعة بالنسبة لي لها وقع الفجيعة المرسومة بالوحل، وأنا الذي أجد نفسي متناثراً على الطرقات مثل زجاج محطم، التاكسي التي اتكأت عليها للبحث عن رزقي، هي نفسها قد اتكأت علي، حتى صرنا سويا مثل عاشقين مكبلين بالحرمان لحظة انفراج الأمل، وأنا المثخن بالجراح، بل أصل الجرح ونزفه، لقد تسمرت كثيرا أمام وجوه الآخرين العابرين، راقبت فيهم أبجديات وتفاصيل كثيرة وعناوين مختلفة، وأنا المسافر دوماً بعينين شاخصتين ترسمان الدقة والسلامة والحذر، أنظر إلى هذه الأوردة البارزة في كلتا يدي، وتجاعيد وجهي الذي أصبح مثل دفتر تقويم أصفر وعتيق، حتى أصبحت كالذي يصرخ بلا صوت، أو كالحي الذي بلا نبض، أو كالنبض الذي بلا قلب، لقد امتصت التاكسي والطرقات والسفر المضني الطويل مني ضوء الحياة وبريقها حتى صار ضوء عيني شحيحاً أيضاً وبهما شيء من العتمة والانكسار، في أعماقي حزن بحر عميق لم تسعفني مرساتي في رسم الرسو والدعة والهدوء، وأنا الذي أرى الحياة حلوة ورائعة وجذابة دون أن أعيخسارتي فيها، بعد أن دفنت طفولتي وصباي والحلم الذي كنت أحلم خلف المقود والطريق، آه.. لقد أيقظت في المارد المتخم بالوجع أيها الإنسان العابر، وأنا الذي قد خيطت كثيراً من جروحي النازفة التي تفتقت في جسدي وفي قلبي ووجداني، ابتسم وواصل سيره بنشوة، وتشاغل عني بالانتباه إلى الطريق المنعطف، دون أن يسمع مني استنكاراً أو تعليقاً، لأنني حينها قد عشت شبه غيبوبة لا أدري كيف جاءت، لكنها جاءت، في المكان الذي أريد, أوقفته ومنحته حزمة النقود التي قد هيأتها له، أخذها ووضعها أمامه قرب المقود وشكرني بلطف، وحين هممت بالنزول ابتسم بوجهي، وقال لي هناك طائر في العلو يسبح بقوة تعابث أجنحة نتف الغمام، سأكون مثل ذلك الطائر رغم أنني عجوز!
ramadanalanezi@hotmail.com