أليس موضوع الشهور القمرية من القضايا التي تمس الحاجة إلى دراستها، وبيان الأحكام الشرعية المتعلقة بها، كونها من القضايا التي يواجهها المسلمون في كل عام، ومن أهمها على سبيل المثال:
مدى دقة الحسابات الفلكية، ومدى الاعتداد بها في حال النفي، وفي حال الإثبات، إضافة إلى أهمية التقنيات الحديثة للرصد الفلكي، ودرجة الاستفادة منها في رصد الأهلة، والآليات المطلوبة في ترائيه، وشروط قبول الشهادة بالرؤية، وموانعها، وحالات رؤية الهلال، ومعايير الرؤية؟.
كتب فضيلة - الشيخ - عبد الله بن منيع في - صحيفة الرياض - يوم الثلاثاء، الموافق: 5 - 9 - 1433 هـ، مقالا، بعنوان: مرحبا برمضان، وفيه: “ وفي هذه الأيام - أواخر شهر شعبان - عام 1433هـ، صدرت بيانات من جهات فلكية، يتسم بعضها بالجمع بين المقتضى الشرعي، والمقتضى الفلكي، ويتفق أهل هذه البيانات على أن الشمس تغرب قبل القمر بست دقائق، وذلك بتوقيت مكة المكرمة، إلا أنهم مختلفون في إمكان رؤية الهلال، والحال ما ذكر “. ولا نعلم يا فضيلة الشيخ: من هم المختلفون، إذ لا يوجد عالم فلكي معتبر، قال بإمكانية الرؤية في تلك الليلة، وإنما جاء الاختلاف في فئة من عامة الناس، أطلقت على نفسها، مصطلح “ الباحث الفلكي “.
هؤلاء - يا فضيلة الشيخ - ليسوا متخصصين في علم الفلك، ولا يحملون أي شهادات علمية في هذا التخصص، وليس لديهم أدنى إلمام بأبسط القوانين الفلكية، ومن ذلك على سبيل المثال: إصرارهم على أن مدار القمر حول الأرض دائريا، وليس بيضاويا. بل إن بعضهم، لا يعترف بدوران الأرض، ولا يصدق بأن الإنسان نزل على سطح القمر، ولا يعترف بالحسابات الفلكية، التي تعتمد دوران الأرض أساسا لها، مثل: حسابات المثلثات الكروية، التي تربط بين حركة الأرض حول الشمس، وحركة القمر حول الأرض. كما أنه لا يملك أي خلفية علمية في مجال علم الفلك، كما أنهم لا يقبلون مجرد التحاور مع علماء الفلك، بسبب قولهم بدوران الأرض حول الشمس. كل ذلك - يا فضيلة الشيخ - ؛ من أجل إحداث الإرباك الذي يتسببون فيه كل عام، وتضليل الناس عن القضية العلمية المثارة، وذلك عن طريق استخدام معادلات، لا تتفق مع الطرق العلمية المنضبطة، التي يستخدمها علماء الفلك المتخصصون في هذا الفن.
ثم إن مكان رصد الأهلة، يجب أن يتطابق مع المعايير العلمية الفلكية من عدة قواعد، مثل: الارتفاع عن سطح البحر، وعدم وجود ملوثات، أو عوالق جوية، أو ما يحجب الرؤية، مما هو معروف لدى الفلكيين، والمتخصصين.
إن تلك المعادلات البدائية، التي يطرحها عبر وسائل الإعلام من يطلق على نفسه لقب “ الباحث الفلكي “، لا تتفق - يا فضيلة الشيخ - مع أبسط قواعد المعادلات العلمية، فضلا عن الحقائق الكونية، والشرعية، التي جاءت بها نصوص الوحي، وامتلأت بها شواهد الكون، والأنفس، والآفاق. فالمعرفة العلمية الحقيقية المبنية على الصدق، واليقين، يجب أن تنطلق من مناهج علمية دقيقة بشقيها - الشرعي والكوني -، وبطرح علمي أكثر أصالة.
لدينا المشروع الإسلامي لرصد الأهلة، والذي أنشئ عام 1998م، يضم - حاليا - أكثر من 450 عضوا، موزعين على 57 دولة من علماء، ومهتمين برصد الأهلّة، وحساب التقاويم. بل يشجع المشروع، المهتمين في مختلف دول العالم على تحري الهلال، وإرسال نتائج رصدهم إلى المشروع عن طريق موقعه على شبكة الإنترنت، حيث تنشر تباعا بعد تدقيقها، وتمحيصها وفق الأصول العلمية، ولم يُعرف عن أحد من هؤلاء ؛ أنهم قالوا بإمكانية رؤية الهلال في الليلة التي أشرت إليها - يا فضيلة الشيخ -.
أما قولك - يا فضيلة الشيخ -: “ فإننا نأخذ بقرار علم الفلك في حال نفيه الرؤية، حيث إن القمر غرب قبل الشمس، ونرفض الشهادة بالرؤية، مهما كانت عدالة مدعيها، ومهما كان عددهم ؛ لأنها رؤية مرتبطة بما يكذبها، ولا نأخذ بقرار علم الفلك بدخول الشهر، أو بخروجه، والحال أنه لم يتقدم أحد بالشهادة بالرؤية. فنحن نأخذ بعلم الفلك في حال النفي دون حال الإثبات، والله أعلم “. فإن من شروط الرؤية التي لا تكون الرؤية صحيحة بدونها، ذكرها أهل العلم المعتبرون في هذا الشأن، ومنهم: عبد الرحمن الصادق الغرياني، إذ إن من أهم هذه الشروط: ألا يقل مكث القمر في الأفق بعد غروب الشمس عن عشرين دقيقة. وهذا التقدير توصل إليه العلماء المختصون بالاستقراء الطويل، وعلم من خلال تقارير المراصد الفلكية المتعددة، والمنتشرة في شرق الدنيا، وفي غربها، على مدى عشرات السنين لمئات المرات، من قبل مهنيين محترفين مزودين بأحدث الأجهزة، والمناظير المتطورة المعدة لهذا الغرض، إذ لم يسجلوا على مدى هذه السنين الطويلة رؤية ولو مرة واحدة لهلال عمره أقل من عشرين دقيقة ؛ لكن فقد هذا الشرط، لا يمنع من طلب تحري الرؤية ؛ لأن الهلال موجود في الأفق، والمختصون في المراصد الفلكية أنفسهم، يتحرونه ؛ ليطوروا تجاربهم، فقد يُسجل رقم جديد لرصد هلال عمره أقل من عشرين دقيقة، وإن لم يحدث بعد، مع أن أقل مدة رُؤي عندها الهلال في مثل هذه الظروف، كانت تسع وعشرين دقيقة، قبل عشرين سنة.
من جانب آخر، فإن ولي الأمر قرّر إسناد إنشاء المراصد الفلكية ؛ لرصد، وتحري الأهلة إلى مدينة - الملك - عبد العزيز للعلوم، والتقنية، بناء على الأمر السامي، رقم: 265 - 2، وتاريخ: 4 -2 -1404هـ. حيث ورد في خطاب رئيس ديوان رئاسة مجلس الوزراء، رقم 685 - 8، وتاريخ: 7 -7 -1407 هـ، ما نصه: “ المراصد الفلكية تعتبر عاملا مساعدا، يستعان به في رؤية الأهلة ؛ لإثبات دخول، وخروج الأشهر الهجرية القمرية ؛ كما نصّ قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، رقم: 108، في 2 -11 -1403 هـ، في مدينة الطائف، بشأن جواز الاستعانة بالمراصد على تحري رؤية الهلال، بان يقوم المركز الوطني للعلوم، والتكنولوجيا (مدينة - الملك - عبد العزيز للعلوم، والتقنية)، بإنشاء عدد من المراصد الفلكية ؛ لرصد، وتحري الأهلة في مختلف مناطق المملكة، وعليه تم إنشاء عدد من المراصد الفلكية.
هذه المراصد الفلكية، وصل عددها إلى عشر مراصد، منها: مرصد البيروني الفلكي في منطقة مكة المكرمة بجبل ظلم، ومرصد ابن يونس الفلكي في منطقة تبوك في حالة عمار، ومرصد الصوفي الفلكي في منطقة تبوك في القرب من مدينة الوجه، ومرصد البتاني الفلكي في جبل ضبع الشقيق بموقق في منطقة حائل، ومرصد الفرعة بالنماص، ومرصد الخضراء بالنماص وكلاهما في منطقة عسير، , ومرصد فلكي في الحريق، ومرصد فلكي في المدينة المنورة، - إضافة - إلى مرصدين آخرين. وعلى الرغم من أن المحكمة العليا، تدعو عموم المسلمين إلى ترائي الهلال، - وخصوصا - من لديه قدرة على الترائي، بالمشاركة في عمل لجان الرؤية المعتمدة من المقام السامي، والاستفادة برصد بدايات الأهلة من تلسكوبات، ومناظير فلكية، وأجهزة للتقريب، والتصوير، وتوفير المختصين العلميين ؛ لتأمين الدعم الفني اللازم، ومع كل هذه التجهيزات، والإمكانيات، لم يستطع أحد من العاملين في تلك المراصد رؤية الهلال في تلك الليلة التي أشرت إليها - يا فضيلة الشيخ -.
فإن قيل: هذا كلام الفلكيين، فكيف نقبل قولهم، ونرد شهادة الشهود العدول ؟. فإننا نقول: هذه حقائق العلم التي لا تقبل القسمة على اثنين، فتتبع الهلال بدقة متناهية، وتحديد ارتفاعه، ومقدار إضاءته، وإعطاء بيانات دقيقة حول الهلال، وإثبات صحة حساب موقع القمر في الأفق، ووقت ولادة الهلال، بما لا يدع مجالا للشك، أو الجدل، أصبحت مسلمات حقيقية، وإعجازا علميا هائلا، مع أن الحسابات الفلكية ليست إهمالاً للرؤية الشرعية، بل هي وسيلة إثبات لا مفر منها؛ للتأكد من شهادة الشهود، عندها فقط - يا فضيلة الشيخ -، سينتهي الجدل العلمي بين الفقهاء، والفلكيين، حول مسألة إثبات رؤية الهلال، - خصوصا - في المواسم الدينية، كدخول شهر رمضان، وخروجه، وشهر ذي الحجة، وشهر الله المحرم.
drsasq@gmail.com