يقول ابن الجوزي: (ما يزال التغافل عن الزلات من أرقى شيم الكرام، فإنّ الناس مجبولون على الزلات والأخطاء، فإن اهتم المرء بكل زلة وخطيئة تعب وأتعب، والعاقل الذكي من لا يدقّق في كل صغيرة وكبيرة، مع أهله، أحبابه، وأصحابه، وجيرانه، وزملائه، كي تحلو مجالسته، وتصفو عشرته).
ويقول الحسن البصري - رحمه الله -: (ما زال التغافل من فعل الكرام).
ويقول الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - (تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل).
يقصد بالتغافل، الإعراض عن القول أو الفعل المقصود أو غير المقصود، الذي غالباً ما يكون قد جانب الصواب، وبالتالي فهو غير مرضٍ عنه وغير مقبول، أو لكونه يتعارض مع القيم السائدة والأعراف المتقبلة، هذا القول وهذا الفعل قد يصدر عن عدو أو عن صديق، لكنك لأصالتك وسمو أخلاقك تعرض عن هذا القول والفعل ترفُّعاً وتكرُّماً، على الرغم أنك تعلم علم اليقين أنّ الغرض منه الإساءة لك والإضرار بك، ليس هذا فحسب بل إنك تتعامل مع الفاعل وكأنه لم يحصل منه شيء، لا تلتفت إلى قوله ولا إلى فعله، وإنما تتفاعل معه بمنتهى التحلُّم والتسامح والتغاضي وعدم المبالاة.
وهناك وجه آخر للتغافل والإعراض عما يحصل، يتمثل في تجاهل زلّة القول، والعفو عن خطأ الفعل، وصرف النظر عن الأمر المحرج الخارج عن الإرادة وتناسيه وتجاهله، واعتباره كأنه لم يحصل، إما بالتنويه عن أمر آخر خارج الموقف المحرج بقصد صرف الأنظار عنه، أو بالتركيز على الموقف الأصلي وتجاهل الموقف الطارئ الذي حصل بسببه الحرج، هذا التصرف النبيل لا يقدر عليه إلاّ من يؤمن بأنّ تجاهل المواقف المحرجة يدفع ما سوف يترتب عليها من ضيق وألم لمن حصل منه الموقف المحرج.
قال أبو علي الدقاق: جاءت امرأة فسألت حاتماً عن مسألة، وأثناء السؤال صدر منها صوت خجلت منه، قال حاتم: ارفعي صوتك، فأوهمها أنه أصم، فسرت المرأة بذلك، وقالت: إنه لم يسمع الصوت فلقب بحاتم الأصم، وهو ليس بأصم، بل تظاهر بأنه ضعيف السمع، مما أوحى للمرأة بأنه أصم، لقد تعمّد حاتم ذلك حتى لا يؤذي نفسية المرأة ويحرجها فيما لو أظهر لها أنه سمع ما حصل منها.
من المحتمل أنّ البعض مرّ به موقف محرج، أو موقف يتطلّب غض الطرف والتناسي وعدم الاهتمام، والمؤكد أنّ ردّة الفعل تجاه هذه المواقف تختلف من شخص لآخر، فالمتحلّي بشيم الكرام وأخلاقهم لن يلتفت ولن يأبه لهذا، بل سيصرف النظر عنه وبأسرع ما يستطيع وبصورة لبقة مؤدبة، ولن يشعر صاحب الموقف بأنه تنبّه أو سمع ما حصل، بينما المتحلّي بسمات السوقة وطبائعهم يحرص على لفت نظر حتى الغافل، ينبهه ويلفت انتباهه، يهول الموقف، يضخمه ويتندر به، يضحك عليه، ويضحك الآخرين عليه، يحرج ويؤذي ويستفز، يستهزئ ويتسبب في إلحاق الضرر النفسي بغيره دون حياء أو خجل، إنه يستمتع بهذا الإيذاء، ويتلذّذ بمضايقة الآخرين وإحراجهم ويفرح بذلك.
هذا الصنف من البشر ثقيل ظله وإن تظاهر بروح الفكاهة وخفة الدم، مكروه من أقرب المقربين له وإن أسمعوه عبارات الثناء والمدح، لأنّ طبائعه تتعارض مع أبسط القيم الأخلاقية التي يتمتع بها عامة البشر، عقلاء البشر ينفرون من كل ما يؤذي المشاعر ويكدر النفوس، ويحرصون كل الحرص على التمتع براحة البال وهناءة النفس.
وعلى العكس من هؤلاء السوقة، هناك الكرام الفضلاء الذين ينهجون نهجاً كريماً في تعاملهم مع الجاهلين والأخطاء والمواقف المحرجة، جميل أن نعوّد أنفسنا في هذا الشهر الكريم على عدم الالتفات إلى الجاهلين وأخطاء الآخرين بل إلى تجاوزها ونسيانها والعفو عنها.