الفرصة الذهبية التي سبقت رمضان اقتنصها تجارنا الأشاوس فباعوا ما باعوا وربحوا وربما تجنبوا أيضاً كساد بعض بضائعهم التي قارب تاريخ صلاحيتها على الانتهاء عندما تخلصوا منها في حمى الشراء.
ليس هذا ما أعنيه، بل إني أرى في شهر الصوم المبارك فرصة ذهبية للصائمين جميعاً -صغيرهم وكبيرهم- أن يجددوا نشاطهم الإنساني وأن يتخلصوا من ركام عادات الحياة اليومية الذي تجمع طوال الأحد عشر شهراً السابقة على رمضان مع ما في ذلك من تذوق لطعم روحانية رمضان. وما نعمله في هذا الشهر يختلف فعلاً عن بقية أيام العام. فنحن نصوم عن الطعام والشراب الذي تعودنا على تناوله نهار كل يوم، وغيّرنا مواعيد الأكل التي اعتدنا عليها، وصرنا نحرص على الاجتماع العائلي -خاصة وقت الإفطار وأحياناً وقت السحور-، وازداد حرصنا على تأدية الصلوات المفروضة مع الجماعة وأيضاً صلاة التراويح، وخفضنا ساعات الدوام مدة ساعتين، بل وأخرنا بداياتها، وتغيرت تبعاً لذلك ساعات النوم وساعات السهر.
والبعض منا يرتب لعمرته في رمضان. ونحرص على إخراج زكواتنا وصدقاتنا في رمضان. كل ذلك -وربما أكثر منه- نفعله في رمضان. ولكن هل يجعلنا هذا متذوقين ومنفعلين بروحانية شهر الصوم؟ أم أنه مجرد إضافة أعمال خاصة بشهر رمضان ننساها فور حلول عيد الفطر أي مجرد تغيير شكلي وليس تجديداً للنشاط الإنساني، أو بتعبير آخر شحناً للنفس بطاقة روحية نشيطة؟ المتقدمون في السن يدركون الفرق بين رمضان اليوم ورمضان ما قبل خمسين سنة.
كانوا في صيامهم صيفاً يعانون شدة الحر ويجوعون ويعطشون فيحسون بمعاناة الفقير والمسكين، وكانوا يعملون أو يدرسون في نهارهم ثم يقضون الفائض من وقت النهار بقليل من النوم وكثير من قراءة القرآن أو الاستذكار.. يفطرون بالماء والتمر وربما شيء من اللبن أو شراب الإقط وصنف واحد أو صنفين من الطعام وينامون بعد صلاة العشاء والتراويح.. كانت الطمأنينة الروحية تطبع حياتهم اليومية وكانوا يتحاشون ما يكدرها من مضايقات.. لم يكن هناك ما يشغلهم عن القيام بعبادة الصوم على وجهها الصحيح. أما صومنا في أيامنا هذه فهو مشوش في أحيان كثيرة بمظاهر ضيق الصدر والعصبية، مثلما يلاحظ على بعض المدخنين، أو في أوقات الزحام المروري، أو في نهاية وقت العصر للحاق بموعد الإفطار، أو عند الاستيقاظ من نوم الصباح لمن يذهب للعمل أو الدراسة.. وهلم جرا، ويترتب على هذه المظاهر ظاهرة الملل من الدوام وبيئة العمل أو الدراسة ومن ثم ضعف الإنتاجية.. ولكن الصوم مشوش أيضاً بوسائل التسلية التي تتيحها -في الليل خاصة- قنوات التلفزيون وشبكات الإنترنت ومجتمعات الشلل في الاستراحات وغير ذلك.. ويترتب على ذلك أن ينقلب الليل إلى نهار، وأن تقضى الحاجة إلى النوم في معظم وقت النهار.. أما تخمة الاستهلاك فإنها تبدأ في شهر شعبان- أي في وقت تكديس المشتريات اللازمة لشهر رمضان- ثم في أيام رمضان نفسها.
فلينظر كل منا إلى طعامه وشرابه ساعة الإفطار وبعد صلاة المغرب ثم ما بعد ذلك خلال الليل. كم من أصناف تقدم فيها ما لذّ و طاب من المأكولات والمشروبات، وكثير منها لا يحتاج إليه الجسم بتاتاً، وبعضها يفيض بالدهن والسكريات.. فأمسينا لا نأكل بمقدار ما يفرح به الصائم لسد حاجته، بل للاستمتاع بالتهام الطعام كمثل من يتشفي من فترة الحرمان من الأكل في النهار فكأننا نراوح بين (صيام وانتقام).
إن الدعوة لتغيير جذري لهذا النمط من أسلوب حياة الصائمين تبدو غير واقعية.. لكنني أدعو إلى اعتبار شهر رمضان المبارك فرصة ذهبية كبيرة لإعادة شحن الطاقات الروحية في أنفسنا وتجديد نشاطنا الإنساني من خلال ما يأتي على سبيل العصف الذهني مثالاً لا حصراً:
- الاكتفاء بقليل من مظاهر التسلية. فهي في نهار رمضان لا جدوى منها للصائمين ولا تصلح إلا للأطفال. ولكن التسلي بمسلسلات مرحة أو فكاهية قصيرة بعد صلاة المغرب والانتهاء من وجبة الإفطار وقبل صلاة العشاء فيه نفع ظاهر، إذا كان يصلح لأغلب أفراد العائلة ويطيل اجتماعهم ويدخل السرور عليهم، على أن تكون خالية من الاستعراض الجسدي أو أغنيات الحب.
- التضحية بقليل مما نستهلكه في الطعام والشراب -وخاصة من المقليات والسكريات- وهذا خيار سهل إذا تواضع الناس عليه. فالذي يشبع ويرتوي من عشرة أصناف يمكنه أن يشبع ويرتوي من صنفين أو ثلاثة، وهذا بالتأكيد أنفع للصحة وأرأف بالجيب.
- الوقت الطويل بين صلاة الفجر والنهوض لدوام العمل أو الدراسة يشجع على سهر الليل بطوله -خاصة في فصل الصيف حيث الليل قصير.. واختيار الموعد الأمثل لبدء الدوام تختلف حوله الآراء. وحسب علمي لم يتم إجراء دراسة علمية تقارن بين منطقتين أو بين مجموعتين متماثلتين من المؤسسات إحداهما تطبق الدوام المبكر والأخرى تطبق الدوام المتأخر مع أخذ الفارق الزمني بين فصول السنة من جهة وبين المناطق من جهة أخرى في الاعتبار.. ومن المفيد في كل الأحوال إنقاص ساعة من وقت الدوام الرسمي ليستعين بها الصائم إما في قراءة القرآن أو في غير ذلك من العبادات أو الواجبات الأسرية.
- إن مما يعمق الشعور بروحانية الصوم أن يتضاءل الفرق في ممارسة الحياة اليومية بين شهر رمضان والشهور الأخرى في العمل والصلات الاجتماعية، وأن لا يميز رمضان بنمط غير نشيط بحجة مراعاة الصوم. وفي دول إسلامية عديدة يعيش الصائمون حياتهم اليومية مثل حياتهم في غير رمضان -ربما يكون لمتطلبات كسب العيش دور في ذلك أو لأن هناك شرائح أخرى في المجتمع غير مسلمة، مما يجعل من الصعب تمييز شريحة عن أخرى في الحقوق والواجبات العامة.. ولكن المهم أن المسلمين على الرغم من ذلك يصومون ويعملون.
- كم هو جميل أن يتيح شهر الصوم لسكان كل حي من أحياء المدينة فرصة لتقوية أواصر الجوار وتعميق الألفة من خلال الالتقاء بعد صلاة التراويح مثلاً في خيمة أمام المسجد أو في فنائه أو في مركز للحي (إن وجد) أو في بيت أحدهم لتبادل الأحاديث وتناول الشاي ومناقشة شؤون الحي وشجونه.. لكن هذا -على الرغم من سهولة ترتيبه وتنظيمه- لا يصبح سهلاً إذا كان المجتمع ينقل جزءاً كبيراً من أنشطته النهارية إلى الليل في أثناء شهر رمضان.
- مزاولة الأنشطة الرياضية بعد صلاة العشاء مباشرة - سواء في النوادي المفتوحة أو بين مجموعات من الأصدقاء لمدة ساعة أو ساعتين جاذبة للشباب وفرصة لتجديد نشاط الجسم، وفي الوقت نفسه تقوي الرغبة في الخلود إلى النوم قبل السحور.
- كم هو جميل أيضاً أن يتفق أصحاب القنوات الفضائية الخاصة والمؤسسات الإعلامية العامة برعاية رسمية على ميثاق شرف إعلامي يتضمن المعايير الأخلاقية التي يلتزم بها جميع الأطراف وتناسب الجو الروحاني لشهر رمضان دون أن تفرغ محتوى البرامج من التشويق والتنوع والمعلومات المفيدة.
خلاصة الحديث أنه لا يضرنا شيء لو نستبدل بمفهوم (رمضان غير لأنه شهر الصوم) مفهوماً آخر هو: (رمضان مثل غيره لكنه أفضل لكونه شهر الصوم والعبادات).