قال أبو عبدالرحمن: كثر تقعيدي لنظرية النقد الجمالي، ونظرية النقد التفسيري والتعاوني الجماعي.. وربما ظن ظان أن تلك التقعيدات لا تملك رصيدها من الواقع، وأنها على اسمها نظريات؛ لهذا أخذت من التراث ههنا مقطعين من معلقة النابغة الذبياني بالمقاييس الجمالية في ذلك العصر مكتفياً الآن بالمقطع الأول.. قال النابغة في أول مقطع من معلقته:
يا دار ميةَ بالعلياء فالسنَدِ
أقوت وطال عليها سالف الأمَدِ
وقفتُ فيها أُصَيْلاناً أسائلها
عيَّت جواباً وما بالربع من أحد
إلا الأواريُّ لَأْياً ما أُبَينِّها
والُّنؤْيُ كالحوض بالمظلومة الجلَد
رُدَّتْ عليه أقاصيه ولبَّده
ضربُ الوليدة بالمسحاة في الثأَد
خلَّتْ سبيل أتِيٍّ كان يحبسه
ورفَّعته إلى السِّجفين فالنضَد
أمست خلاء وأمسى أهلها احتملوا
أخنى عليها الذي أخنى على لُبَد
قال أبو عبدالرحمن: المقطع وصف لأطلال الحبيبة وقد رحلت ورحل قومها.. كانت قبل الأطلال داراً، ووصَفَها أطلالاً ولم يصفها داراً.. إنه وصف واقعي وليس فيه تشبيه شيئ بشيئ إلا في جانب جزئي، وهو تشبيه مَنَعة النؤي بالحوض في المظلومة؛ فالصورة وصفية بحتة وعناصرها من التالي:
1- إنها كانت داراً آهلة في موقع ذوي مَنَعة وكرم؛ لأنها في الأعالي: مرتفع الأرض، وسفح الجبل؛ وتلك منازل ذوي المنعة الذين لا يختبؤون خوفاً، وصفة ذوي الكرم؛ ليراهم الآفِقُ والعانيُّ فيؤمَّ ضيافتهم.
2- إنها أصبحت أطلالاً مُقْوِية.. أي خالية من أهلها منذ زمن بعيد، وكرر هذا المعنى بقوله: وطال عليها سالف الأمدِ.. وقوله: أمست خلاء.. وقوله: أخنى عليها الذي أخنى على لبد.. أي غيَّرها الذي غيَّر شباب نسر (لقمان) لبد وقد عُمِّر طويلاً في أسطورة العرب؛ وقوله: وما بالربع من أحد.
3- بقي من معالمها الدمنة، وهي آثار محبس الدابة ومعلفها (الأواري)، وهي جمع آري.. أي رَكَّاسة تُدفن تحت الأرض (آخيه) تَشُدُّ الدابة عن الانفلات.. ثم تُوُسِّع به لمحبس الدابة، وهو مكان علفها وروثها، وإذا كانت في جدار سميك لرباط الخيل فعامَّة أهلِ نجد يسمونها (جَواخيرَ).. وتلك معالم لطول عهده بها لا يكاد يتبيَّنها إلا بعد جهد (لأي).
4- وبقي من المعالم الحفير الذي يُجعل حول البيت من الشَّعر يردُّ عنه المطر إذا انحدر من صَبَبٍ، وهو النُّؤي.. مأخوذ من النأي بمعنى البعد؛ لأنه حفير مستطيل كالنهر يُبعد الماء يميناً وشمالاً، وله حاجز، والتسمية للحاجز، ثم غلب الاستعمال في الحفير وحاجزه.. وقد بقي من هذا النؤي آثاره بعد الدفن.. دفنته خادمة شابة (الوليدة بمسحاة ردَّت بها أقاصي الحفير)؛ فجعلتها متدانية لدفنه، وكانت الأرض ندية ثأداً؛ فتركت السيل الأَتيَّ يمضي في مجاريه بعد الرحيل.. وكانت قبل ذلك رفعت أكنافه عالياً من حيث يكون في سمتِ مصراعَي الستر (السجفين) في مُقدِّمة البيت، وفي سَمْت أعالي المتاع المنسَّق (النضد).
5- ذكر وقوفه عدداً من الأيام يسائلها بعد الأصيل وهو ما بعد العصر إلى المغرب.
قال أبو عبدالرحمن: وربما تساءل المعاصر عن الدهشة الجمالية في هذا المضمون، واعتبره مضموناً عادياً !؟.. وتزول هذه النظرة النقدية السطحية إذا أحكم الربط بين الشاعر وواقع عصره، وأول ما يلاحظ في ذلك الواقع أن أهل الوبر رُحَّل يألفون المكان مُدَّة ثم تُجبرهم ضرورة الانتجاع، والحضري يولد ويموت في مَدَرِه؛ فلا غرابة إذا بكى الدار إن فارقها وقتاً من الزمن.. ولكنَّ البدوي أرقُّ فؤاداً يبكي داراً لم يلازمها مدى عمره، وإنما يحل بها مرة أو مرات بعد أزمان متباعدة؛ فبكاء الديار وإن لم يكن بها عشيقة شعور بدوي عارم عام، وأفجع ما يكون البكاء إذا ارتبطت الدار بذكريات مثل محبوبته مي؛ وذلك حين الغَزَل الحقيقي، والذي عند النابغة تغزُّل على طريقة الشعراء: فالنَّسيبُ هو المُقَدَّم!!.
وتذكُّرُ سالفِ العهد وما فيه من أحزان يجعل الشاعر يكرر هذا التذكر تلقائياً، أو بلغة أهل العصر: لا شعورياً.. والأُصيلان الذي هو تصغير أُصلان الذي هو جمع أصيل، وهو أوائل وقت اجتماع الشمل، حيث تعود كل سارحة من الأناسي والأنعام، وصغَّرها تمليحاً لذكرياتها وإن كانت مُحزِنة؛ لأن أصلها ذكريات حب، والحب بِأَلَمِه نعيم!!.. وقد جرَّب أهل الأطلال التي كانت دياراً عامرة، وجرَّب العُشَّاق الذين كانت لهم ذكريات في الدار مشاعرَ الوَلَهِ عند تبيُّنِ معالم الأطلال الدارسة كالنؤي والأواري؛ إذن النابغة يُحرِّك في جمهوره المُعايِش له ذكريات تثير الدهشة.. وإثارة الدهشة نفسها جمال فني.. وقد أضفى النابغة على تحريك الدهشة عناصر جمالية بمقاييس أهل زمنه؛ فهذا الوصف المباشر لا يخلو من إيحاء؛ فقد ذكر حلول أهل مية بالسند؛ ليوحي لك بكرمهم ومنعتهم؛ لأن العلو منازل الأشراف.. وأوحى لك بأنها مُنَعَّمة؛ فالذي حفر النؤي وأعلاه، ثم سوى به الأرض هو الخادمة.. وأوحى لك بحسن حال أهلها: بكونِ متاعهم نَضَد، ومتاع الضعفاء بَدَد.. وأوحى لك عن صدق شوقه بأن وقوفه على الأطلال لم يكن مصادفة بمرور عابر في أصيل ذات يوم، وإنما كان يتردد أصلاناً كثيرة، وصغَّرها لحلاوة الذكرى في ذهنه.. وأوحى لك عن صلابة حواجز النؤي؛ إذ شبَّهه بالحوض الصُّلْب؛ لأنه في أرض جلد مظلومة بالحفر فيها.. وأوحى لك عن عمقه وطوله وعلو حاجزه بأنه كان يحبس سيلاً أتِيَّاً.. ومفرداته التي جعلها قوافي لم يتكلفها ويجعلها سابقةً المعنى، بل كانت المفردة طوع مشاعره.. والمعاصر يُعبِّر بالنديَّة؛ لأنها أقرب إلى متناوله من الثأد.. ولكن النابغة لا يتكلف اللغة؛ لأن كلمة مثل الثأد هي لغته في الشعر وفي نثره العادي.. وليس من الضروري أن يكون النابغة عاشقاً لمية، وأن مية كانت بتلك العلياء، بل يكفي أنه عبَّر عما في مشاعر ذوي الأطلال، وكم لهم من مي ومية!!.. ثم يأتي المقطع الثاني من المعلقة عن غرض آخر وهو قوله:
فَعَدِّ عما ترى إذْ لا ارتجاعَ له
وانْمِ القتودَ على عيرانةٍ أُجُد
مقذوفة بدخيس النحض بازلها
له صريفُ صريفِ القعو بالمسد
كأن رحلي وقد زال النهار بنا
يوم الجليل على مستأنس وحد
من وحش وجرة مَوشيٌّ أكارعه
طاوي المصير كَسَيْفِ الصيقل الفرد
أسرت عليه من الجوزاء سارية
تُزجي الشمالُ عليه جامدَ البردِ
فارتاع من صوت كَلاَّب فبات له
طوعَ الشوامت من خوف ومن صرد
فبثَّهنَّ عليهِ واستمرَّ به
صمعُ الكعوبِ بَرِيَّاتٍ من الحرد
وكان ضمرانُ منه حيث يُوزعه
طَعْنَ المُعارِك عند المحجر النَّجَد
شكَ الفريصةَ بالمَدْرَى فأنفذها
طعن المبيطر إذ يشفي من العضَد
كأنه خارجاً من جنب صفحته
سفُّودُ شَرْبٍ نَسَوْهُ عند مُفْتَأَد
فظل يَعْجِم أعلى الروق منقبضاً
في حالك اللون صَدْقٍ غير ذي أود
لما رأى واشقٌ إقعاصَ صاحبه
ولا سبيل إلى عقل ولا قود
قالت له النفس إني لا أرى طمعاً
وإن مولاك لم يسلم ولم يصد
قال أبو عبدالرحمن: هذا المقطع نموذج جمالي نادر في الشعر الجاهلي وهو تشبيه شيئ بشيئ.. ولكن بلماحية تتقصىَّ أوصاف المشبَّه به المحتاج إليها في التشبيه؛ فالنابغة لم يَرَ جدوى من البقاء في الأطلال؛ فتلك الدار التي كانت عامرة بذكرياتها لا سبيل إلى رجوعها؛ فلينتجع هو كما انتجع أهل الدار (وأمسى أهلها احتملوا).. ومَن أجدب انتجع؛ فليشدَّ على ناقته بِرفعِ عيدان الرحل (إنْم القتود) على ناقة صلبة الخف (عيرانة) موثقة الخَلق بفتح الخاء (أجد).. وكرر هذا المعنى بأن لحمها (النحض) كثير متداخل (دخيس) كأنها قذفت به فداخلها.. ونابها (بازلها) الذي شق عن اللحم في التاسع من عمرها له صياح (صريف) من النشاط والفرح كصياح بكرة من خشب تستدير على حبل مفتول (القعو بالمسد).. وشبَّه ناقته - التي تحمل رحله وهي كانت مستأنسة في وحدتها؛ لأنها في نصف النهار بثمام وادي الجليل قرب مكة - بثور من وحش وجرة؛ إذن سينتقل إلى وصف وحش وجرة، وهي مكان في الطريق إلى البصرة من مكة كثير الوحوش.. إن هذا الوحش موشَّاة أكارعه ببياض ونقط سوداء، طاوي البطن الذي هو موضع المصير، وهو يلمع كسيف فرد لا مثيل له جلَّاه صيقله، وقد هبَّت عليه ليلاً ريح شمالية باردة تسوق السحاب.. ومع هذه السارية أفزعه قنَّاص يباري كلاب الصيد معه؛ فارتاع هذا الثور الوحشي، وبات على قوائمه بين خوف وبرْد.. والقوائم هي الشوامت المذكورة في شعره، والشماتة فرح الرجل ببلية الآخر مِن عدوٍّ وغيره.. وبيت النابغة محل إشكال عند الشراح.. قال الزبيدي: «والشوامت قوائم الدابة، وهو اسم لها.. واحدتها شامتة.. قال أبو عمرو: يقال: لا ترك الله له شامتة.. أي قائمة.. قال النابغة:
فارتاع من صوت كلاَّب فبات له
طوعَ الشوامت من خوفٍ ومن صرد
ويروى: طوعُ الشوامت بالرفع [رفعِ طوعُ].. يعني بات له ما شمت به من أجله شُمَّاته.. قال ابن سيده: وفي بعض نسخ المصنف [أي الغريب المصنَّف لأبي عبيد]: بات له ما شمت به شُمَّاته.. قال ابن السِّكِّيت في قوله: فبات له طوع الشوامت: يقول: بات له ما أطاع شامته من البرد والخوف.. أي بات له ما تشتهي شوامته.. قال: وسرورها به هو طوعها، ومن ذلك يقال: اللهم لا تطيعن بي شامتاً.. أي لا تفعل بي ما يُحِبُّ، فيكون كأنك أطعته.. وقال أبو عبيدة: من رفع (طوعُ) أراد: بات له ما يسرُّ الشوامتَ اللواتي سمعن به.. ومن رواه بالنصب: أراد بالشوامت القوائم.. يقول: فبات له الثور طوع شوامته.. أي قوائمه.. أي بات قائماً.. وبات فلان بليلة الشوامت: أي بليلة تشمت الشوامت»(1).
قال أبو عبدالرحمن: وسياق ابن فارس يوحي بأنه يُقدِّر في البيت كلمة (ليلة) قبل الشوامت.. كما أنه استشكل وصف القائمة بالشامتة.. قال: «ويقال: (بات فلان بليلة الشوامت).. أي بليلة سوء تشمت به الشوامت.. قال:
فارتاع من صوت كلاب فبات له
طوع الشوامت من خوفٍ ومن صرد
والذي ذكرت أن فيه غموضاً واشتباهاً فقولهم في تشميت العاطس، وهو أن يقال عند عطاسه: يرحمك الله.. وفي الحديث: أن رَجلين عطسا عند رسول الله ?، فشمَّت أحدهما ولم يُشمِّت الآخر؛ فقيل له في ذلك؛ فقال: إن هذا حَمِد الله عز وجل، وإن الآخر لم يحمد الله عز وجل.. قال الخليل: تشميت العاطس دعاء له، وكل داعٍ لأحدٍ بخير فهو مشمِّت له.. هذا أكثر ما بلغنا في هذه الكلمة، وهو عندي من الشيئ الذي خفي علمه، ولعله كان يُعلم قديماً ثم ذهب بذهاب أهله(2).. وكلمة أخرى وهو تسميتهم قوائم الدابة شوامت.. قال الخليل: هو اسم لها.. وقال أبو عمرو: يقال: لا ترك الله له شامتة: أي قائمة.. وهذا أيضاً من المشكل؛ لأنه لا قياس يقتضي أن تسمي قائمة ذي القوائم شامتة»(3).
قال أبو عبدالرحمن: ذكر اللغويون لاشتقاق الشوامت أحد احتمالات ثلاثة:
الأول: قول ابن سيده: دعا له أن لايكون في حال يُشمت به فيها.
والثاني: أنه من الشوامت بمعنى القوائم.. كالتشميت للعاطس بالثبات على طاعة الله(4)؛ فالقوائم مانعة من أن يُشْمت به كامتناع شماتة الشيطان بمن لم يشمِّت أخاه إذا عطس.
والثالث: أن الشين المعجمة بدل من السين المهملة، ولا علاقة للتشميت بالشوامت.. قال الزبيدي: «والتسميت: ذِكْرُ اللهِ تعالى على الشيئ.. وفي بعض نسخ الصحاح: ذِكْر اسم الله.. وقيل: التسميت ذكر الله عز وجل على كل حال، والتشميت الدعاء للعاطس، وهو قولك له: يرحمك الله.. وقيل: معناه هداك الله إلى السمت.. وذلك لما في العاطس من الانزعاج والقلق، وهذا قول الفارسي.. وقد سمَّته: إذا عطس؛ فقال: يرحمك الله.. أُخذ من السمت إلى الطريق والقصد كأنه قصده بذلك الدعاء.. أي جعلك الله على سمتٍ حسنٍ، وقد يجعلون السين شيناً كَسَمَر [بالسين المهملة] السفينة وشمرها [بالشين المعجمة] إذا أرساها.. وقال النضر بن شميل: التسميت الدعاء بالبركة.. تقول: بارك الله فيه.. قال أبو العباس: يقال: سمَّت العاطس تسميتاً وشمَّته تشميتاً إذا دعا له بالهدى، وقَصْدِ السمت المستقيم، والأصل فيه السين؛ فقلبت شيناً.. قال ثعلب: والاختيار بالسين؛ لأنه مأخوذ من السمت وهو القصد والمحجة.. وقال أبو عبيد: الشين أعلى في كلامهم وأكثر.. وفي حديث الأكل: سموا الله وادنوا وسمِّتوا.. أي إذا فرغتم فادعوا بالبركة لمن طعمتم عنده.. والسمت الدعاء، والتسميت لزوم السمت وقصده.. وفي حديث عوف ابن مالك [رضي الله عنه]: فانطلقت لا أدري أين أذهب إلا أنني أُسمِّت.. أي ألزم سمت الطريق يعني قصده.. وقيل: هو بمعنى أدعو الله»(5).
قال أبو عبدالرحمن: إن تشميت العاطس خارج عن معاني الشماتة؛ لأنه من مادة السين إلا إذا جعلنا الألف المهموزة على بابها من النقل؛ بمعنى أن تُزيل عن أخيك شماتة الشيطان وَفَرَحَهُ إذا دعوت للعاطس بالرحمة؛ فإن الشيطان يفرح ويشمت بهجر السُّنَن.. واشتقاق القوائم جاء على وجه الفأل لأصحاب القوائم؛ بمعنى أنها تُخَيِّبُ لاحقها في الطلب فكأنها تشمت به، ومعنى بيت النابغة غفل الشراح عن دلالة سياقه، ومعناه: أنه لم يبت للصياد رابضاً، بل بات هارباً (طوع الشوامت) مطلقاً لقوائمه أقصى قدرة في العدو حتى وصل إلى مَلجَئه الذي طاعَن بقرنه دونه؛ ولهذا بثَّ الصياد له الكلاب تطارده.. وَعَيْبُ المعجميِّين أنهم بعضَ المرات يُجرِّدون البيت من سياقه في القصيدة، فيضيع عنهم المعنى.. والنابغة وصف الثور بأنه يعدو في البيت الآخر، لأنه وصفه بأن قوائمه استمرت به في العدو.. والذي استمر به مَفْصِلٌ من عظامه ضامر (صمع الكعوب) بريئات من الحرد.. وفسر الشراح ضمورهن بأنه من الحرد وهو الاسترخاء، ولم يبينوا وجه الاسترخاء في الثور الوحشي.. أما البعير فتضمر مفاصله من شدِّ العقال.
قال أبو عبدالرحمن: هو يصفهن بالبراءة من الحرد، وليس يصفهن بالحرد نفسه، والذي لحق هذا الثور كلب للصياد اسمه ضمران، وهو اسم وهمي؛ لأن النابغة يتخيَّل ولا يحكي واقعة.. وكان الثور يُغري الكلب ضمران (يوزعه)، وكان ضمران يهاب منه طعنَ مُقاتِل شجاع (نَجَد) عند ملجئه.. وكان من الثور أن شكَّ فريصة الكلب (وهي لحم بين الكتف إلى الخاصرة) بمدراه وهو قرنه.. كأنَّ الثور بيطار يعالج داء العضَد، وهذا داء يكون ضموراً في العضد الأيسر، وعامة أهل نجد يصفونها بأنها مِسْتَصِبَّة، وأحد الظرفاء في مدينتي شقراء صاد ظبياً، وأخذ من لحم عضدها؛ فلما سأله شريكه قال: (إنها مِسْتَصِبَّه)!!.. وسأله عن قلب الظبي، فقال: (يا خِبْلَ القلب: مالها قلب.. لَوْ لها قلبٌ ما صِدّتها)!!.. وكأن القرن حديدة يُشوَى عليها اللحم (سفُّود)، وقد نَسِيه (الشَّرْبُ) الجماعة الذين يشربون في موضع الشواء عند من قعد منهم وهو ثَمِلٌ (المفتَأد)؛ فظل الكلب يعجم أعلى القرن بمعنى يعضُّه عضاً شديداً بالأضراس، والكلب مُنْضَمٌّ على هذا القرن، وانقباضه في قرنٍ حالك السواد صلب (صدق) غير معوج.. ومن أوهام الشراح تفسير الانقباض بالتقبُّض من شدة الوجع !!.. وكانت النتيجة أن الكلب الآخر (واشقاً) آثر السلامة لأن زميلة ضمران قتله الطعن بالقرن.
قال أبو عبدالرحمن: لم ير النابغة في طريقه حماراً وحشياً صارع الكلب، ولم يُرِد تشبيه ناقته بالثور في كل هذه الصفات؛ وإنما أراد تشبيه ناقته بالثور في سرعة عدوه وتعرضه للأخطار ونجاته منها؛ فهو أراد تشبيه الناقة بالثور في نتيجة أوصاف الثور لا في الأوصاف نفسها؛ إذن النابغة وصل إلى مأمنه النعمان بن المنذر على عيرانة سريعة نجت من أخطار لم يذكر كنهها.. وهذا النموذج من الإلحاح على أوصاف الثور لأجل التشبيه تُورَدُ أمثاله في المبالغة.. والواقع أنه نموذج لبلوغ الغاية في الوصف، وهو وصف لأمر يقع كثيراً، وليس مبالغة تبعد عن المألوف في الواقع، وهذا النموذج من المأثور الذي دفع فنَّ التوجُّد في الشعر العامي إلى أقصى غاية.. ويرى الدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي: أن النابغة فاق لفنستون، وسبيك، وغيرهما من الأفارقة في وصف الصيد.
قال أبو عبدالرحمن: لم أطَّلع على نماذجهم؛ لأملك المقارنة، وقيََّدَ السفُّود بأنه منسي في الموقد؛ ليطابق الوصف بشدة السواد.. والذهن في تلك العصور يترقَّب أحوال الوافد، وقد مر بِغَوْلِ الطريق؛ فأشبع النابغة هذه الرغبة بما تخيَّله عن الثور وضمران وواشق؛ ففيه جمال تصوير، وفيه جمال مسامرة، وهذا النموذج من الأدب الواقعي؛ لأنه تصويرُ متخيَّلٍ لما يقع مثله كثيراً في مألوف القوم، وهذا هو الأدب الواقعي.
)))
أَعْرِفُ أقلَّ القليل عن هيجل:
قيل: «سرعان ما انقسم أتباع هيجل بعد وفاته إلى معسكرين: جناح يميني استغلَّ لاهوت هيجل أقصى استغلال ممكن، وحاول أن يبثَّ حياةً جديدة في البروتستانتية.. وجناح يساري يتألف ممن يُسَمَّونَ بالهيجليين الشبان، وفيهم ثوريون وملاحدة لامعون، ومن أبرزهم لودفيج فويرباخ وكارل ماركس.. وقد أخذ ماركس عن هيجل اهتمامه بالتاريخ والتطوُّر، ولكنه زعم أن هيجل قد جعل الإنسان يقف على رأسه كأنما الروح والأفكار أمور أساسية.. أما ماركس فقد وضع هيجل في وضعه الصحيح بقوله: إن العوامل المادية هي الأساسية، وفضلاً عن ذلك فلم يفعل الفلاسفة غير تفسير العالم على اختلاف فيما بينهم.. بينما المهم هو تغييره.. وفي الدنمارك احتج كيركجارد على اللاهوتيين من أنصار هيجل في بلاده.. وفي الوقت الذي استعار فيه الكثير(6) من هيجل استنكر أية(7) محاولةٍ تُجاوِزُ حدودَ الإيمان (أو حتى تحاول الإحاطة بالمسيحية إحاطة عقلية)، ويُصِرُّ على أنها لا معقولة، ومع ذلك ينبغي الإيمان بها.. وكذلك استنكر أَيَّ محاولة للاحتماء داخل مذهبٍ ما؛ هرباً من المشكلات التي تكتنف الوجود العيني الذاتي للإنسان»(8).
قال أبو عبدالرحمن: على الرغم من ترجمة أهم كتب هيجل، وعلى الرغم من كثرة الدراسات عنه، وعلى الرغم من تأليف مجلد ضخم عن معاني مصطلحاته، وعلى الرغم من أوقات طويلة صرفتها في وقت نشاطٍ علمي فكري - والله يخلفها عليَّ بما هو أنفع - في قراءةِ هيجل: لم أفقه من فلسفة هيجل إلا ما يتعلق بكتبه عن الفن الجمالي، وبكتبه عن فلسفة التاريخ.. وَغَمُضَ عليَّ غموضاً شديداً أكثر المسائل في لاهوته الطبيعي، واتهمتُ نفسي بمرجوحيةٍ (وما كنتُ بليداً) أن قصورَ الفهم من قِبلي، وظهر لي بما هو أرجح أن هيجل قاصدٌ الغموضَ قصداً بحيلٍ شيطانية يريد بها إثبات مفردات بألفاظها، وتفريغَها من معانيها بضبابية ومراوغة كالروح والعقل والمعرفة.. ولا يشك أحد في عبقريته وذكائه، ولكنه ذكاء الشياطين؛ لأنه مُسْتَسِرٌّ بالإلحاد، ولعله وجد فيما عنده من لاهوت قومه الذي يعدُّونه إلهياً ما يأباه العقل والعلم المادي التجريبي.. ولكنَّ هذا لا يُعفيه من تفكير صادق مع النفس لا تضليل فيه حول المعرفة، ولا تقصير فيه حول طَلَبِ الحقِّ وتصحيح ما في لاهوتهم.. ولا يُعفيه من فحص الأصول الخطية للاهوتهم الإلهي والطبيعي، ليستدرك ما فيه من إحالة إلى دين صحيح، وما طرأ عليه من تبديل البشر، وما حُمل عليه لاهوتهم الطبيعي من ادِّعاءٍ وضعي.
)))
الغناء الرومانسي:
تجافى الشعر الحداثي عن الرومانسية، وَحُقَّ له ذلك؛ بدافع الدهشة من كل ما هو إمداد جمالي.. وبعضهم عادى الرومانسية، وأكثر من عدائها، وما كان يحق له ذلك؛ لأنها من غِذاء عواطفنا مَقَرِّ الجمالِ الوجداني، ولا نستطيع التجرُّد عن عواطفنا؛ فتلك سنة الله، ولن تجد لسنته تحويلاً، والحنين أيضاً جِبلَّة في النفوس، فإن تسلَّينا وتألَّقنا أمداً من جمال الحداثة وفكرياتها فللنفوس التي تصدأ حنين وعطش إلى النزهة الرومانسية ولا سيما زهرة الربيع وزهرة البشر؛ فهذا الشاعر الوجداني أحمد رامي رحمه الله تعالى وليس متخثِّراً: لما فرغ من تجسيد الغيرة بأربعة مقاطع عن مشاهد طبيعية خلابة ختم بالمقطع الرابع على طريقة الرومانسيين في تحويل المشاهد الطبيعية إلى عوالم غرامية كما في الزنبقة السوداء لبلزاك.. قال رامي:
أغار من نسمة الجنوب
على محياك يا حبيبي
يا ليتنا طائران نلهو
بالروض في سَرْحِه الخصيب
وليتنا زهرتان تهفو
على شفا جدول لعوب
تُمِيلني نحوكِ الخُزامى
إذا سرت ساعة المغيب
وذاك أني أراك ترنو
للطير في جوِّه الرحيب
وأن قلبي يذوب شوقاً
لساعة القرب يا حبيبي
قال أبو عبدالرحمن: ليس ههنا زخم فكري، ولا تُخمة ثقافية، ولكن المتلقِّي يستمتع بالذكرى الرومانسية ولو كان في صُفَّة؛ وتلك متعة جمالية لأن هذا عناق بين أحياء الطبيعة وأجوائها جعله مشهداً غرامياً يشمل الشاعر وحبيبته؛ ليعم الحبور كما في قصائد شلي وورد زورث.. وفي هذا المقطع ارتفع جانب الغيرة؛ لأن الحبُور عام، ولو سلم المقطع من البيت الأول:
أغار من نسمة الجنوب
على محياك يا حبيبي
لكان أولى، ولكنه جعله نَفْلَة غنائية؛ لأن نسمة الجنوب شاهدة على أنه نِعْم المُحَيَّا، ولا حَدَّ على نسمة الجنوب؛ فلينعم رامي بتلك الشهادة !.. وهذه الغيرة تأتَّت من عذرية العرب، وهم أولى بها من يد لا تردُّ يدَ لامس!.
وبمقابل الغيرة العذرية نجد الحياء عند المتيِّمَة - بصيغة اسم الفاعل - في شعر تجسيد المحاسن كقول النابغة الذبياني:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
فتناولته واتقتنا باليد
بمخضبٍ رخصٍ كأن بنانه
عنم يكاد من اللطافة يعقد
نظرت إليك بحاجةٍ لم تقضها
نظر السقيم إلى وجوه العوَّد
تجلو بقادمَتْى حمامة أيكةٍ
بَرَداً أُسِفَّ لثاته بالإثمد
كالأقحوان غداة غِب سمائه
جفَّت أعاليه وأسفله ندي
قال أبو عبدالرحمن: النصيف كل ما غطى الرأس من خمار وغيره، والبنان طرف الأصبع، والعنم شجر ليِّن الأغصان لطيفها الواحدة عنمة.. أراد اتقتنا بكف حمراء يكاد بنانها يعقد من لطافته ونعومته، وفي البيت إقواء، وهو الضم في قافية حركتها الكسر، وهي لم تقدر على الكلام بحاجتها؛ مخافة أهلها كالسقيم الذي ينظر إلى من يعوده ولا يستطيع الكلام؛ فذلك حياء التربية، والقوادم الريش المقدم في جناح الطائر، ويكون شديد السواد.. شبه سواد شفتيها بالقوادم، وشبه بياض ثغرها ببياض البرد.. واللثات مغرز الأسنان، ومن عادتهم أن يذرُّوا عليه الإثمد ليبين بياض الأسنان، وتلك عادة مهجورة، والأقحوان معروف، وهو نَوْر أبيض استهلكه التراث في التشبيه، وأشد ما يكون صفاؤه غب المطر؛ إذ يزول ما عليه من الغبار بالماء.. وفي الرومانسية دلال وحياء معاً، والله المستعان، وإلى لقاء قريب إن شاء الله، وعليه الاتكال.
الحواشي:
(1) تاج العروس 3/ 8.
(2) قال أبو عبدالرحمن: قارن كلام ابن فارس بما ذكره في الصاحبي ص36-39 / دار الكتب العلمية / طبعتهم الثانية 1428هـ، وهم يعيدون طبع كتب مطبوعة، ويُجرِّدونها من أعمال محققيها، ولا يرجعون لأصول خطية.
(3) مقاييس اللغة 3/ 012 - 112.
(4) تاج العروس 3/ 18.
(5) تاج العروس 3/ 47.
(6) قال أبو عبدالرحمن: اللحن ههنا آتٍ من إثبات (ال) بلا معهود، والصواب (كثيراً).
(7) قال أبو عبدالرحمن: الصواب في هذا السياق السؤال بأي، ويكون السؤال (بأية) إذا سبق ذِكْرُ أشياء مُعَيَّنة محصورة.
(8) الموسوعة العربية المختصرة ص519.