يصوم أكثر السياح المسلمين في الخارج؛ فمنهم من يقول ليس هناك مشقة، ومنهم من يتعاظم الإفطار ويفتخر بالصيام، ومنهم من يخشى صعوبة القضاء. فأما الأول فلم يفقه الشرع، وأما الثاني فهو مسلم بالعرف والعادة فصومه عادة لا عبادة، وأما الثالث فضعيف العبادة. فإفطار السائح المسافر في رمضان دليل على قوة إيمانه وصحة عقيدته وحسن فقهه وإخلاص نيته في العبادة، وسيأتي إثبات كل هذه الدعاوى بالأدلة الشرعية الصريحة.
روى مسلم في صحيحه عن يعلى أنه سأل الفاروق عن قوله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاة إِنْ خِفْتُمْ.. ، وَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِي الله عَنْهُ: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْه فَسَأَلْتُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْه وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «صَدَقَة تَصَدَّقَ الله بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ». فقصر الصلاة جاء مشروطاً صراحة بالخوف، فذهب الخوف واستمر عليه السلام في قصر الصلاة، فسأل عمر الرسول متعجباً فيم القصر وقد أمن الناس - وكان الفاروق قبل توليه الخلافة يميل إلى التشدد رضي الله عنه - فجاء الجواب شاملاً لأحوال الناس واختلاف الأحكام، كما جاء قائماً إلى قيام الساعة «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته»، فهذا هو الرسول الذي لا ينطق عن الهوى.
الله غني عن كل شيء، ولا حاجة له بعبادة عباده، ورخصه التي رخص بها للناس هي صدقات يتصدق بها من واسع فضله على عباده. والتعفف عن قبول صدقة الله - وهو المنان الوهاب عظيم الشأن - لا يعد ورعا ولا تعففاً، بل هو في ظاهره الحرفي كِبْر واستغناء عن رحمة الله قد يخرج صاحبه من رحمة الله وفضله. وشاهد ذلك أقوال بعض أهل العلم أن المقصود من الحديث دفع التكبر والترفع عن استباحة ما أباحته الشريعة، فهذا هو المذموم، أن يترفع المسلم عن الترخص بالرخص تنطعاً، ففي هذه الحالة يحب الله من العبد أن يأتي بالرخص.
ولكن كثيراً من الناس لا يأخذون بالرخص تعففاً عن صدقة الله -والعياذ بالله - بل لظنهم أنهم يحسنون صنعاً، وهذا من الجهل الناتج عن تتبعهم لأحاديث الوعاظ والمتمشيخة الذين ينقلون بلا تمحص من التراكمات الفقهية التي صورت أن الصيام في السفر موازٍ للإفطار أو أنه أفضل، مستشهدين جهلاً بقوله تعالى في سورة البقرة: وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ فإنما الآية جاءت عندما كان الصيام على الخيار بين الصيام أو الإفطار مع الإطعام.
فالأمن أو المشقة أو الجهد أو غيرها ليست علة للرخص بل حكم لها، والحكم غير منضبطة وليست محدودة ومتجددة، فلا تنقض الحكمة العلة - والعلل قوانين منضبطة، فهي مقاييس متجردة لا يهم أسماؤها وأشكالها طالما أنها منضبطة كالكيلو والطن والمستقيم واللون وهكذا -. وقد يكون من حكم الرخص اختبار إيمان العباد وتقديرهم لله حق قدره وتعظيمه في ترك محبوبهم (كالصيام في السفر مثلاً) إظهاراً لطاعة لله وتذللهم له بقبولهم لصدقته.
والمفطر في السفر مُجمع على صحة عمله، أما الصائم لرمضان في سفر فهناك أقوال معتبرة في أن صيامه لا يقع؛ لأن صوم رمضان لا ينعقد في السفر بدلالة قوله تعالى «فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر». وكل ما جاء في السماح في الصيام في السفر هي أحاديث عامة دلالتها أوضح في صيام التطوع لا الواجب، كحديث «أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أأصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام قال: (إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر) فالشاهد (وكان كثير الصيام). فالجمع الأسلم بين الترغيب في أخذ الرخص والآية السابقة وبين عموم الأحاديث المبيحة للصيام في السفر هو أن تُحمل الإباحة على صيام التطوع لا الواجب. وشاهد ذلك ما رواه ابن عباس: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه ليريه الناس فأفطر حتى قدم مكة وذلك في رمضان» فهذا صريح في رمضان وما أتاكم الرسول فخذوه. وكل الأحاديث الأخرى ليس فيها دلالة صريحة على رمضان - على حد علمي وذاكرتي -.
وعلى كل، فالصحيح أن صيام رمضان ينعقد في السفر لما جاء عند مسلم: (هو رخصة من الله فمن أخذ بها فهو حسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه)، والرخصة لا تكون إلا في الواجب لا التنفل.
hamzaalsalem@gmail.comتويتر@hamzaalsalem