قال أبو عبدالرحمن: الزمان في اللغة العربية وعرف الناس بلغاتهم ليس شيئاً وجودياً؛ وإنما هو علاقة بين شيئين مثل الرقم 1 و2 و3... إلخ؛ فإذا تحقَّقَتْ العلاقة أصبح الرقم صفةً للشيئ، فالرقم 2 ليس شيئاً إلا إذا وُجِد شيئان يكون الاثنان صفةً لهما، وتُميِّز بينهما بعلاقة تقدُّمِ الواحد على الاثنين مثل (قَبْل) و(بَعْد)؛ فلا معنى لاثنين إلا بوجود واحد قبله في الوجود، أو الرتبة، أو الجهة من اليمين؛ فالشيئ الوجودي هو الذي يكون الزمن ظرفاً له، والمعدود موجودات مُعَيَّنة تُحصيها بالعدد، ولا معنى لثلاثة إلا بعد اثنين.. وما لا وجود لآخر معه بإطلاق، أو في مكان ما، أو في وقت ما يرتبط معه بعلاقة القبل والبعد وجوداً أو رتبة.. إلخ: فصفته أنه واحد.. وشرط العلاقة المذكورة وِحْدة جامعة؛ كالتمرة لأشخاص التمر، والثوب الذي صفته كيت وكيت لأشخاص الثياب بتلك الصفات، وموجودات مختلفة متفرقة بصفتها أعياناً تُحْصى؛ وإذْ اتضح أن الزمان علاقة فله خصوصية غير الأرقام مثلاً؛ لعلاقتها بالمعدود؛ لأن تَصَوُّرَ زمنٍ سرمدي لا مظروف فيه نسبي لا مطلق بالنسبة لشيئ معين في حينٍ معيَّن، والله سبحانه محصٍ لكل زمن سرمدي؛ لأنه قبل الزمن، ولا عدمَ ولا سرمد قبله جل جلاله، وهذا أحد معاني الحديث الشريف: «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر»، وليس الدهر من أسماء الله، ولكنه من المجاز الذي يُكابر فيه بعض القوم، والمعنى أن الله هو محصي الدهر، وهو المقدِّر الموجِد للأحداث التي تقع فيه.. والزمان تصوُّر حتمي ضروري لتوالي سكون وسكون، أو لتوالي حركة وحركة، أو لتوالي سكون وحركة، أو لتوالي حركة وسكون.. وكل هذه المتواليات لا يتصوَّرها العقل إلا بعلاقة أول وثانٍ وثالث، وسابق ولاحق.. حتى التواليات التي تكون دَفَعة واحدة بلا تفاوت بينها في علاقة أو سابق لابد أن تكون سابقةً أو تالية لمتواليات قبلها أو بعدها؛ وبهذا يكون الزمان قسمان: قسم سرمدي، وزمن مُقَدَّر؛ فالزمل السرمدي قسمان: زمَن سرمدي ساكن ليس ظرفاً لشيئ؛ لأن ظرفه عدم محض؛ فلا قياس له إلا بزمن يتلوه مظروف حركي؛ فَتُقَدَّر آماد السكون بآماد الحرَكة.. هذا هو الصورة التي لا يتصور العقل غيرها إذا لم يصل إلى علمه زمن حركي، ولكن صح بالبرهان أنه لا أول لمخلوقات الله إلا بسبق وجوده سبحانه؛ لأنه جل جلاله غير معطَّل عن الخلق والتدبير لحظة { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [سورة الرحمن / 29]، وح بالبرهان أن الله الأول لا شيئ قبله؛ فهو المحصي لزمان سرمدي لو وُجد.. والقسم الآخر زمن سرمدي حركي قابل للضبط بحركات جرمٍ يُحصى عَدُّه.. إلا أن البشر لا يعلمون ذلك؛ فالسرمدي - حركة وسكوناً - لا نهائي البداية، مجهول المقدار، وهو فطرة عقلية لتصور اللاتناهي بداية ونهاية، وذلك هو الزمان السرمدي؛ فالإيمان بما قبله وهو الرب جل جلاله، وما لا بعده: هو عقيدة المؤمنين والعقلاء؛ لأن تدبير ربنا لا نهائي (غير نهائي)؛ لأنه حيٌّ دائم قيوم باق فعّال لما يريد؛ فكلُّ هذا فطريةٌ عقليةٌ برهانيةٌ.. والقسم الثاني من أقسام الزمان هو الزمان المقدَّر بحركات أجرام مضبوطة القياس والبداية والنهاية كطلوع الشمس وغروبها، وهو محدَّد المقادير.. كل مقدار معروف اسمه في لغات البشر، والله سبحانه لم يسبقه عدم ولا سكون؛ لأنه لا أول لوجوده على الكمال المطلق والتنزيه المطلق ولا نهاية؛ فهو الأول والآخر، وإنما العدم ما سواه؛ فكان سبحانه يُوجِد من العدم، ويوجِد شيئاً من شيئٍ، ولم يتعطّل سبحانه عن التدبير لحظة؛ فكل يوم هو في شأن؛ فلا تَصَوُّر لسرمد ساكن يسبقه، ولا تصور لسرمد حركي قبله؛ فهو سبحانه مُوجِد صورة السرمدية وما اخترعه المتكلمون لمعنى الأول بلا بداية بلفظ الأزلية؛ فوجود ذلك بوجوده سبحانه على صفة الكمال والتدبير بلا أول ولا نهاية؛ فالإيمان بذلك ملزمٌ العقلَ، مُرْضٍ فطرتَه بما لا أول له ولا نهاية وَفْق ضرورة العقل من الخبرة الحسية الدالة على وحدانية الكمال والتقديس لربنا سبحانه وتعالى؛ وهذا مبيَّن بالشرع تفصيلاً، وبضرورة العقل إجمالاً على صفات الكمال للأول والآخر.. فمن قال بفطرته: «لا أتصور الزمان السرمدي ببدايةٍ أو نهاية»: قيل له: الزمان السرمدي يكون سكوناً لا حركة؛ فلما صح له بالبرهان أن الكون لا يوجد إلا بفاعلٍ له الكمال المطلق ليس هناك ما يسَبقه: فعليك إذن أن تستمر على تصوُّرك مالا بداية له ولا نهاية تصوُّراً مبنياً على براهين العقل من المشاهَدة الدالة على توثيق الشرع دلالة وثبوتاً، ودلالة الشرع والعقل أنه لا شيئ لا بداية له ولا نهاية إلا الله سبحانه وتعالى خالق البدايات والنهايات.. وتلك البراهين هي فطرة العقل التي فطر الله البشر على الإيمان بها؛ نتيجةً للإيمان بذي كمال مطلق لا أول قبله ولا آخر بعده؛ لأنه حيٌّ قيوم باق دائم؛ ومن هنا يختفي السرمدي المجهول، ويتعيَّن الوجود اللانهائي لقيوم الكون وخالقومالكه.
ومضات أدبية:
- قال مونتي - وهو شاعر إيطالي: (الرومانسي كان القبر البارد للجميل!)(1).
قال أبو عبدالرحمن: معظم متيمي العرب من الفصحاء والعوام قبور باردة تستعذب السهر والنحيب، وتتعلل بأدنى درجات القنوع، وتعتبر السلو نعمة لو رُزِقْتَهُ، ولا تطمع بما تحت المِئْزر.
- قال ابن خيران الكاتب:
أَنا شِيعِيٌّ لآل المصطَفى
غَيرَ أنِّي لا أرى سَبَّ السَّلَفْ
أَقْصِدُ الإجْماعَ في الدِّينِ ومن
قَصَدَ الإجماعَ لم يَخْشَ التَّلَفْ
لي بِنَفْسِي شُغُلٌ عن كُلِّ مَنْ
لِلْهوى قرَّظَ قَوماً أَوْ قَذَفْ
وقال المؤيد في الدين:
يا سَائِلاً تَسْألُني عَنِّي
اعلم بِأنِّي رجُلٌ سُنِّي
أُحِبُّ أصْحابَ نبيِّ الهُدَى
دِيني على حُبِّهمُ مَبْنِي
صِدِّيقُنا الطُّهرُ وفاروقُنا
مثلُ سَوادِ العَينِ في عَيني
دَعْني من الرَّفْضِ وأصْحابِه
إنِّى بريئٌ مِنْهمُ دَعْني
هذا طريقُ الرُّشْدِ لا غَيُرهُ
إنْ كنتَ تَبْغِي الرُّشْدَ فاتْبَعني
قال أبو عبدالرحمن: المؤمنون حقاً يؤمنون بجميع الرسل، ويؤمنون بأنّ خيار الناس أصحاب الرسل عليهم السلام ورضي الله عن حوارييهم.
- دعا شخص اسمه فارس بن اليمج الشاعرَ السَّرِيَّ الرَّفاء إلى مذهب الاعتزال؛ فقال السري(2):
أراني طريق الاعتزال ولم يرد
سوى أن أسبَّ الله والعالَم الطُّهْرا
سأستأذن القرآنَ فيما دعوتني
إليه ولا أعصي لمُنزِله أمرا
قال أبو عبدالرحمن: في المعتزلة عُبَّاد فضلاء ليسوا كلهم على هذا السُّوء.
- ليست القيمة في الـمِعْلَف:
الشعوبية تهجو العرب بأكل العِلْهِز، والفث، والدعاع، والهبيد، والمغافير.. قال حسان رضي الله عنه:
لم يُعَلَّلن بالمغافير والصمع
(م) ولا شري حنظلِ الخطبان
وقال الطرماح:
لم تأكل الفث والدعاع ولم
تنقف هبيداً يجنيه مهتبده
قال أبو عبدالرحمن: التَّقَشُّف صفة الأخيار، وبالله ثم به تكبر وتحْلو جلائل أعمالهم، ويُقْتدى بسلوكهم؛ وإذا وجدوا الطيبات من الرزق طَعِمُوا بلا سرفٍ ولا مخيلة؛ وأما الجنس اللطيف فيجب تنعيمه حسب الاستطاعة، ولا قيام إلا مع القدرة.
- قال (بيرك): «في بعض الأحيان تعطينا الملاحظة السهلة - لأكثر الأشياء ابتذالاً، ولأحطِّها قيمة - في الطبيعة أصدقَ الأضواء.. بينما تتركنا أشد درجات الذكاء والمهارة (التي تستهين بملاحظة كتلك) في الظلام، أو تؤدي بنا إلى ما هو أسوأ.. إنها تمتعنا، وتُضلِّلنا بأضوائها الزائفة»(3).
قال أبو عبدالرحمن: هذه اللفتة عن الأدب الواقعي سماها (وليم دين هاولز) شيوعيةَ الذوق.
مَقّطَعٌ نابغي آخر:
لما تكلم النابغة عن ناقته، وشبَّه حالتها في بلوغها مَأْمنَها بحالة ثور وجرة: وَصَل كلامَه عن أبي قابوس النعمان بن المنذر بالكلام عن مهمتهما [أي النابغة، والناقة]؛ فقال:
فتلك تُبلِّغني النعمانَ إن له
فضلاً على الناس في الأدنى وفي البَعَدَ
ولا أرى فاعلاً في الناس يشبهه
ولا أحاشي من الأقوام من أحدِ
إلا سليمان إذ قال الإله له
قم في البرية فاحددها عن الفَنَد
وخَيِّسِ الجن إني قد أذنتُ لهم
يبنـون تدمر بالصُّفَّاح والعمد
فمن أطاعـك فانفعه بطاعته
كما أطاعك وَادْلُلْهُ على الرشد
ومن عصاك فعاقبه معاقبة
تنهَى الظلوم ولا تقعـد على ضمد
إلا لمثلك أو من أنت سابقه
سبْق الجواد إذا استولى على الأمد
قال أبو عبدالرحمن: من المظاهر الجمالية ههنا المثاقفة والمسامرة بمعارف تغيب عن جمهور الأميين؛ فيجد الجمهور في شرحها لذة؛ ولهذا أتحفهم النابغة بقصة نبوة سليمان عليه السلام وملكه، ثم بقصة زرقاء اليمامة بعد ذلك.. ومن المظاهر الجمالية تغطيته عيوب المبالغة في مقارنة النعمان بسليمان عليه السلام؛ وذلك بأخْذه الصفة الملائمة لملك النعمان وهي القوة، ثم أخْذِه الوظيفة الملائمة أيضاً وهي الإرشاد والجزاء.. ومن الجمال ههنا أدب اللمحة؛ إذ دل على معاني كثيرة من قوله: (زيَّنها سعدان توضح في أوبارها اللبد)؛ فعُلم أن إبل النعمان التي في الحيرة بشمال الجزيرة ترعى في قلب اليمامة آمنة، وهذا دليل الملك والمنعة.. وأنها سمان؛ لأن السعدان يُزيِّنها.. وأنها سائمة لم تُرْكب؛ لأن السعدان في لبدها.. ومن الجمال بلوغ الغاية في الوصف؛ إذ شبَّه سرعة الخيل بسرعة طير فرَّ من شآبيب السحاب، وذلك غاية سرعة الطير.
قال أبو عبدالرحمن: حَسِب جمهور الشراح أن النابغة ههنا يشير إلى كرم النعمان بقوله (فاعلاً في الناس)، وهذا غفلة منهم عن دلالة السياق؛ وإنما أراد النابغة الإشارة إلى عظمة ملك النعمان؛ ولهذا أساء النابغة الأدب، وكذب على ممدوحه وعلى نفسه وعلى سليمان وعلى الواقع؛ إذْ شبَّه مُلك النعمان بملك نبي الله سليمان.. وذكر من رسالة سليمان عليه السلام منع الناس من الفند الذي يشمل التخريف والكذب والخطأَ في القول والعمل مما يُفَنَّد عليه صاحبُه، ومعنى ذلك أن رسالته هدايةُ البشرية.. ومن ملكه أن سخر الله له الجن يؤدون له الأعمال المعجزة كالعمارة القوية.. وعادة العرب نسبة كل بناء شاهق عتيق إلى الجن المسخَّرِين لسليمان عليه وعلى نبينا محمد وعلى جميع أنبياء الله ورسله أفضل الصلاة والسلام.. قال ياقوت عن تدمر: «قيل: سميت بتدمر بنت حسان ابن أُذينة بن السميدع بن مزيد بن عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام، وهي من جانب الأبنية موضوعة على عمد الرخام.. زعم قوم أنها مما بنته الجن لسليمان عليه السلام، ونعم الشاهد على ذلك قول النابغة الذبياني:
إلا سليمان إذ قال الإله له
قم في البرية فاحددها عن الفند
وخيِّس الجن إني قد أذنــت لهم
يبنون تدمـر بالصُّفَّاح والعمد
وأهل تدمر يزعمون أن ذلك البناء قبل سليمان بن داوود عليه السلام بأكثر مما بيننا وبين سليمان، ولكن الناس إذا رأوا بناء عجيباً جهلوا بانيه أضافوه إلى سليمان وإلى الجن(4).. ثم أورد خرافة ربطها بزوال ملك بني أمية فقال: «وعن إسماعيل بن محمد بن عبدالله القسري قال: كنت مع مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية حين هُدم حائط تدمر وكانوا خالفوا عليه؛ فقتلهم، وفرق الخيل عليهم تدوسهم وهم قتلى؛ فطارت لحومهم وعظامهم في سنابك الخيل، وهدم حائط المدينة؛ فأفضى به الهدم إلى جرف عظيم؛ فكشفوا عنه صخرة؛ فإذا بيت مُجصَّص كأن اليد رُفعت عنه تلك الساعة، وإذا فيـه سرير عليه امرأة مستلقية على ظهرها وعليها سبعون حلقة، وإذا لها سبع غدائر مشدودة بخلخالها.. قال: فذرعتُ قدمها فإذا هي ذراع من غير الأصابع، وإذا في بعض غدائرها صحيفة ذهب فيها مكتوب: (باسمك اللهم أنا تدمر بنت حسان أدخل الله الذل على من يدخل بيتي هذا)؛ فأمر مروان بالجرف فأعيد كما كان، ولم يأخذ مما كان عليها من الحلي شيئاً.. قال: فوالله ما مكثنا على ذلك إلا أياماً حتى أقبل عبدالله بن علي فقتل مروان، وفرق جيشه، واستباحه، وأزال الملك عنه وعن أهل بيته»(5).. وقاد إلى هذه الخرافة عظمةُ البنيان، وقِدَمُه، وما فيه من تماثيل.. مع صحة الحديث بِعِظَم خلق آدم عليه السلام، وأن الخلـق ما زال ينقص بالتدريج.. وقال ياقوت: «وكان من جملة التصاوير التي بتدمر صورة جاريتين من حجارة من بقية صور كانت هناك؛ فمر بهما أوس بن ثعلبة التيمي صاحب قصر أوس الذي في البصرة؛ فنظر إلى الصورتين؛ فاستحسنهما، فقال:
فتاتَي أهل تدمر خبِّراني
ألما تسأما طول القيامِ؟
.. إلى آخر الأبيات.. قال المدائني: فقدم أوس بن ثعلبة على يزيد بن معاوية؛ فأنشده هذه الأبيات، فقال يزيد: لله در أهل العراق !.. هاتان الصورتان فيكم يا أهل الشام لم يذكرهما أحد منكم؛ فمر بهما هذا العراقي مرة فقـال ما قال.. ويـروى عن الحسن بن أبي سرح: عن أبيه قال: دخلت مع أبي دلف إلى الشام؛ فلما دخلنا تدمر وقف على هاتين الصورتين، فأخبرته بخبر أوس بن ثعلبة، وأنشدته شعره فيهما، فأطرق قليلاً ثم أنشدني:
ما صورتان بتدمر قد راعتا
أهل الحجى وجماعـة العُشَّاق
غُبْراً على طول الزمان ومَرَّهِ
لم يسأما من أُلفةٍ وعناق
فَلَيَرمِيَنَّ الدهرُ من نكباته
شخصيهما منه بسهمِ فَواق
وليبلينهما الزمان بكرِّهِ
وتعاقب الإظلام والإشراق
كي يعلم العلماء أن لا خالد
غـير الإله الواحد الخلاق
وقال محمد بن الحاجب يذكرهما:
أتدمر صورتاك هما لقلبي
غرام ليس يشبهه غرام
وقال أبو الحسن العجلي فيهما:
أرى بتدمر تمثالين زانهما
تأنُّق الصانع المستغرق الفطن
هما اللتان يروق العين حسنهما
تستعطفان قلوب الخلق بالفتن(6)»
قال أبو عبدالرحمن: إذن ثمة تصاوير وآثار، ولكن بغير الأساطير والخرافات التي مرَّ ذكرها، والتخييس السجن؛ ولهذا سمي السجن الذي بناه علي رضي الله عنه أو الحجاج بالكوفة مخيَّساً.. ولكن لما قال النابغة (أذنت لهم.. البيت) عُلِم أن المراد بالتخييس معناه اللغوي الآخر وهو التذليل والتسخير.. والصُّفَّاح بتشديد الصاد المضمومة وتشديد الحاء المفتوحة حجارة عريضة؛ وذلك على المبالغة في ظهور صفحته وعرضها.. ولما استثنى النابغة سليمان من نفيه مشابهة أحد من الناس النعمانَ بمعنى لا أحد يُشبه النعمان غير سلمان: كان مآل الكلام أن سليمان يشبه النعمان.. وكرم الله نَبِيَّهُ سليمان بن داوود عليهما السلام، وفضَّله بالنبوة، وآتاه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده تسخيراً وهبة لا تعلماً واكتساباً، وصدق الله، وكذب النابغة، وخَسِـإ أبو قابوس عبدالفرس أن يكون في مصفِّ سليمان.. ولما كان سليمان عليه السلام نبياً هادياً للخير، وملكاً مؤيداً بالقوة التي تحقق له الردع والزجر لمن خالفه، وكان النابغة شبَّه سليمان بالنعمان، وهو تشبيه مقلوب بضرورة التأويل، وقلت: (بضرورة التأويل)؛ لأن النابغة لم يقصد التشبيه المقلوب وإنما أراد استثناء ملك سليمان ونبوته.. والسياق يأبى التشبيه المقلوب؛ لأن الجن لم تُسخَّر لأبي قابوس !.. فلما كان ضرورة المعنى (معنى المعنى) تشبيه النعمان بسليمان لا العكس، والتشبيه في مطلق قوة الملك لا خصوصه: أوصاه بأن يسلك مسلك سليمان في توجيه قوة ملكه إلى إرشاد الناس، وزجر الجاني، ومكافأة المطيع؛ فقال للنعمان: (فمن أطاعك...) إلى آخر البيتين.. والضمد الحقد يقول: لا تترك عقوبة المخالف؛ فتبقى على حقد، ولعل المراد الغضب الناتج في العادة عن حقد.. ولم يَرِد المستثنى منه في قول النابغة:
إلا لمثلك أو من أنت سابقه
سبق الجواد إذا استولى على الأمد
ولهذا حار اللغويون والشراح عند البيت، واستشكلوه.. قال الأعلم الشنتمري: وأكثر أهل اللغة لا يعرف معنى البيت(7).
قال أبو عبدالرحمن: إذا عجز أهل اللغة عن معرفة معناه بُني الأمـر على احتمالات منها أن البيت لا معنى له، وأن النابغة قال لغواً.. وأما الشنقيطي فجعل الاستثناء من جملة (ولا تقعد على ضمد).. قال: (لا تقم على الحقد إلا لمن يماثلك في حالك أو من فضلك عليه كفضل السابق على المصلي)(8).
قال أبو عبدالرحمن: هذا معنى تأباه بلاغة العرب؛ لأنه نفى أن يكون للنعمان شبيهاً بإطلاق يدخل فيه نفي الشبيه بأحدٍ مِن مُعاصريه؛ فكيف يُجعل ههنا مثلاً؟!.. ولأن الند غير داخل في قانون جزاء المخالفة، ولأن العرب تأبى الوصية بالصبر على ما يُنتج الضمد؛ فكيف يوصيه بالصبر على من هو دونه؟!.. ومن الشراح من جعل هذا البيت بعد قوله: (هذا الثناء) البيت(9).
قال أبو عبدالرحمن: وَضْعُ البيتِ بآخر المعلقة ليس تحقيقَ نقل، ولكنه اجتهادٌ ناشئ عن استشكال المعنى، ثم إن هذا الاجتهاد خاطئ بيقين؛ لأن بلاغة العرب تأباه؛ إذْ يكون المعنى لم أعرض لأحد في قصيدي للعطاء طالباً له إلا لمثلك ومن هو دونك ممن يقرب منك.. وهذا ينقض أول البيت الذي يفتخر فيه بثناء خالص سواء أكانت الرواية: (هذا الثناء فإن تسمع لقائله)، أم كانت: (هذا الثناء فإن تسمع به حسناً)؛ فالنابغة يعلِّل حسن الثناء بخلوه من غرض الاستجداء.. وهذا أيضاً هو واقع القصيدة؛ فالنابغة ذكر مواهب أبي قابوس ولم يَسْتَمْنِحْهُ.. وإذا جعلنا قوله: (إلا لمثلك) متعلقاً بقوله: (فلم أعرض): كان المعنى: هذا ثنائي الحسن لم أعرض فيه لأحد بالصفد وهو المكافأة إلا لمثلك ولمن هو قريب منك ممن هو دونك !!.. فهل طلب النابغة من أحد في معلقته عطاء ؟!.. الواقع أنه لم يطلب عطاء لا من النعمان ولا من غيره.. وكلمة (لأحد) ضروريَّة التقدير؛ لأن دعوى ارتباط البيت المشكل بآخر القصيدة لا يصح إلا بهذا التقدير أو ما في معناه ككلمة (لمخلوق).. ولا يصح تقدير ما يدل على عموم ثناء النابغة، وشعره؛ بل المراد ثناء خالص، وهو المذكور في المعلقة مسنداً إلى النعمان.. وأما الأصمعي فقد قابل الاستشكال بتعميم الدعوى في موضعين هما: ادعاء أن للبيت موضعاً في سياق آخر، ولم يبين ذلك السياق.. وادعاء أن معنى البيت الاعتذار من النعمان، ولم يُوجِّه هذا المعنى توجيهاً يصح به التحليل لغة.. قال: «ليس هذا موضع البيت.. ولا أرى سوى أن النابغة أراد حضَّ النعمان وترغيبه في العفو عنه»(10).
قال أبو عبدالرحمن: الحذف من أسلوب العرب وبلاغتهم، ولكن بشرط وجود الدلالة على المحذوف المقدَّر، ويكون الحذف فصيحاً بليغاً بمقدار قـوة الدلالة.. وبيت النابغـة من شنيـع الحذف؛ لأن المحذوف المقدر غير مدلول على تعيينه تقريباً ولو بدلالة بعيدة إلا باستقراء مضنٍ للمتلِّقي يُنتج حصراً عقلياً لما يُحتمل تقديره بشرطي الصحة والرجحان؛ وهكذا فعلتُ؛ فلم يظهر لي إلا ثلاثة احتمالات لا أتوقَّع غيرها:
أولها: وهو المرجوح أن المستثنى منه السبق بدلالة: (سابقه سبق الجواد)؛ فالتقدير: ما السبق إلا لمثلك أو من هو قريب منك ممن باراك فسبقته؛ وعلى هذا فكلمة (أعْطى) تفسير لسبق الممدوح.
وثانيها: أن المستثنى منه عموم المدح بدليل ما سيسرده من مدائح.. أي ليس المدح إلا لمثلك.. إلخ.
وثالثها: وهو الأرجح أن المستثنى منه ضرب الأمثال.. أي لا تضرب الأمثال إلا لمثلك.. إلخ.. والدليل على ذلك أنه لم يجد له مثلاً غير سليمان [عليه السلام]؛ فضرب المثل لسليمان بعظمة ملكه، وضرب المثل للنابغة بالوصايا؛ إذن هذه أمثالي لا أضربها إلا لمثلك كسليمان، ومن باب أولى ضَرْبُها لك إذا ضُربت لمثلك أو لمن يقرب منك؛ لأنه باراك - أي مَن هو دونك - وتفوقت عليه؛ لأنك سبقته.. وكلمة «أعطى» على هذا التقدير أيضاً تشرح معنى سبْقه لمباريه، و(استولى على الأمد) أخذها الإمام ابن حزم رحمه الله من النابغة؛ لبلوغ الغاية في الإحاطة بالعلم، وسَبْق الأقران، وتلك جملة أدبية في غاية التوفيق.
قال أبو عبدالرحمن: وهذا البيت المشكل إعرابه عند الشُّرَّاح استأنف به النابغة مَدْحَه النعمانَ بالكرم إذ قال:
أعطى لفارهـةٍ حلوٍ توابعها
من المواهب لا تُعطَى على نكد
الواهب المئة المعكاء زيَّنها
سعدانُ تُوضِح في أوبارها اللبد
والأُدْم قد خُيِّست فُتْلاً مرافقها
مشدودة برحال الحيرة الجـدد
والراكضات ذيول الريط فانقها
برد الهواجر كالغزلان بالجرد
والخيل تمزع غربـاً في أعنتها
كالطير تنجو من الشؤبوب ذي البرد
وقد ربطه المعربون بالبيت السابق لاستثناء سليمان عليه السلام، والتقدير عندهم هكذا: لا أرى فاعلاً يشبهه أعطى لفارهة.
قال أبو عبدالرحمن: هذا بعيد؛ لأنني أسلفتُ أن المنفي بقوله: (لا أرى فاعلاً) ليس هو الكرم، بل الملك قوةً وسياسةً.. والفارهة الناقة الكريمة الحسنة، ويريد بها - وهي واحدة - جنس النياق الكثيرة التي يهبها مع ما يتبعها من مواهب.. ومن فسر النكد بالضيق والعسر جعل المعنى: أن هذه النياق الكريمة يشح بها أهلها، ولا يهبونها حال الضيق والعسر.. وبعضهم فسَّر النكد بالضيق والعسر، ثم قال عن معنى البيت: إذا أكرمت لا تكرم عن نكد.. أي لا تمنَّ ولا تندم(11).
قال أبو عبدالرحمن: النابغة يخبر ولا يَأْمر إيصاءً، كما أن هذا التفسير يجعل ذكره للضيق والعسر فضولاً، والأرجح عندي أنها صدرت عن سماحة نفس بلا ضيق أو تمنُّع أو مشارطة؛ فلم يهبها على نكد منه.. وأما تفسير النكد بالمنَّة فغير وارد؛ لأن المنة تكون بعد الإعطاء والمذكور ههنا يصاحب الإعطاء، واستأنف البيان لكثرة عطاياه بمبتدأ مقدر وخبر مُظَهرَ هما: (هو الواهب).. والإبل المعكاء بمعنى السمينة الممتلئة الشديدة الغليظة؛ وإنما سمنت برعيها السعدانَ في فلوات اليمامة، وقد زيَّنها السعدان معاينةً بوجود شوكه لاصقاً في اللبد وهو وَبرُها المتلبِّد، ويكون منظره زينة؛ لعلمهم بمخبره.
ويهب أيضاً النوق البيض (الأدم) المذللة (المخيسة)، ومرافقها متجافية عن آباطها (فتل جمع فتلاء)، وذلك أسرع لها.. ويهب أيضاً الجواري الناعمات يسحبن أطراف الملاء (الراكضات ذيول الريط) كالغزلان في أرض جرداء وقد نعَّمهنَّ (فانقها) الكن في شدة الحر؛ فكان الهجيـر لهن برداً.. ويهـب أيضاً الخيل التي تمر مسرعة في حدة ونشاط (تمزع غرباً).. والشؤبوب السحاب العظيم، وإلى لقاء قريب إن شاء الله، والله المستعان، وعليه الاتكال.
الحواشي:
(1) ثلاثة قرون من الأدب 3 /23.
(2) الحيوان للجاحظ 5 /442 - 443.
(3) ثلاثة قرون من الأدب 3 /19.
(4) معجم البلدان 2/ 20.
(5) المصدر السابق.
(6) المصدر السابق 2/ 21 - 22.
(7) أشعار الشعراء الستة الجاهليين 1/ 193.
(8) شرح المعلقات العشر لأحمد بن الأمين الشنقيطي ص146.. دار الكتب العلمية ببيروت / ط مطابع يوسف بيضون.
(9) شرح الشنقيطي ص146.
(10) شرح المعلقات العشر للدكتورين ياسين الأيوبي وصلاح الدين الهواري ص 426 / عالم الكتب ببيروت / الطبعة الأولى عام 1415هـ.
(11) شرح الدكتور ياسين وزميله ص426 - 427.