لست أدري إن كان هناك موانع شرعية تحول دون إدخال منهج الفلسفة ومنهج المنطق بين المواد التي تدرس، لكني أعتقد أن غياب المنطق والفلسفة هي واحدة من أهم الأسباب المولِّدة لغياب المنطق والمعقول
في بعض سلوكياتنا وحتى أفكارنا.
نتعجب من بعض التناقضات الصارخة التي نراها ونتعايش معها في كثير من الأحيان ونقف مذهولين أمام سلوك أو أفكار وآراء لبعض من نعتقد أنهم بلغوا من العلم والوعي مرحلة النضج، لكننا نفغر أفواهنا مندهشين أمام ما نرى أو نسمع حتَّى نشعر بالقرف والاشمئزاز من هذه العقول، وقد يكون من بينهم من يستحق فعلاً توليه مهام وظيفته أو مكانته بحكم معطيات مختلفة تؤهله لذلك لو لا أن الممارسة تظهر خلاف ذلك، ثمَّ تكون النظم والقوانين هي التي تحمي بقاءه واستمراره، فلا وجود لأنظمة أو قوانين تحاسب وتحاكم على منطقية السلوك، باعتبار أن المنطق شيء هلامي لا وجود له فيما خارج النظم والقوانين، لكن ماذا إن كانت بعض النظم والقوانين في حاجة للمنطقية؟ هنا تتوقف الإجابات باعتبارها وصلت إلى الحائط المسدود، وهذا الحائط المسدود ليس كما قد يستوحي البعض من أنه السلطة القاهرة، فلا توجد سلطة قاهرة ولا أحد راغب في قهر أحد، لكنها في الحقِّيقة المنطق الاجتماعي السائد، وهذا المنطق الاجتماعي السائد هو الذي يحتاج إلى بحث منطقيته وتصحيحها، فكيف نبحث في منطقية أمر ما دون وجود نهج منطقي؟ وكيف نوجد منطقًا منهجيًا دون إقرار واعتراف بشرعية المنطق؟
فينا من يعتقد أن الأعراف والتقاليد المتوارثة هي الحاكمة لمنطق السلوك والفكر لأفراد المجتمع، وبالتالي يحرصون على التأكيد على حفظ هذه الخصوصية وحمايتها، بيد أن فينا أيضًا من يسخر ويتهكم على بعض السلوكيات القديمة وكذلك الأفكار التي ضيّقت واسعًا ويعدها تخلفًا وجهلاً، وفينا أيضًا من يزاوج بين الاثنين، الحفظ والسخرية، ويبقيها في خزينة وعيه وعقله ليستخدم منها ما يراه مناسبًا على اختلاف الأحوال، لكن إن ظهر من يصرخ وينادي قائلاً: تعالوا نبحث وندرس ثمَّ نهذب ونشذب الغث من السمين في هذه المتوارثات التي لا زالت تحكم وعينا وعقولنا وتوجه سلوكياتنا، فسيقال عنه: إنه خارج السياق وربما وصف بأنه تغريبي أو علماني، وكأن الغرب أو العلمانية خارج المنطق، والحق أن من يعش في عصر بعقلية عصر سابق هو المتخلف والخارج عن المنطق الطّبيعي للحياة.
إن الذي يسود راهن العصر هو الغرب، فهو الذي ينتج ويبتكر ويكتشف، ونحن نمتلك نفس العقول ونفس الإمكانات ولكننا دون منطق يحكم اتجاهنا، المنطق الغربي يسعى لتحقيق رفاهية الفرد وإعمار الحياة، ونحن نسعى لحماية التاريخ ونحد من ومضات العقل حتَّى لا يخدش كبرياء هذا التأريخ، وهذا الاختلاف في المنطق الحيوي بيننا وبينهم هو الذي يحمي ويحفظ معادلة الإنتاج والاستهلاك، أما المنطق ذاته فإنه يقول: إن السيادة للمنتج والتبعية للمستهلك، وعليه إن أردنا الخروج من التبعية والتغريب فلا بد أن نختار مسار الإنتاج للوصول إلى السيادة، لكن الإنتاج لن يكون بعقول محبوسة في قوالب تحصنها مشاعر التوجس والقلق، وإنما بعقول تحتكم المنطق في براهينها، مع الإقرار والاعتراف بأن ذلك ليس سهلاً ولا ميسورًا الوصول إليه إلا بعد الإقرار والاعتراف أولاً بضرورة وأهمية علم المنطق.
علم المنطق وفلسفته ضرورة ماسَّة لتهذيب العقل وتوسعة مداركه مما ينعكس بالإيجاب على السلوك الفردي والاجتماعي، ويأخذه إلى المناخ الاجتماعي السليم الهادف إلى تحقيق رفاهية الفرد وإعمار الحياة، التي لا تتحقق إلا بالعمل المنتج الذي يراكم التجارب ولا يؤسر بها أو يعيد تجديدها، وهذا يحتاج منّا إلى إعادة النظر في أساليبنا التربوية والتَّعليمية التي تحتاج دعمها بمنهجي المنطق والفلسفة في المراحل المتوسطة والثانوية، لتكون دعمًا وسندًا للطالب في فهم حاجته الحقيقية للدراسة والعلم، وإنها أي الدراسة والعلم ليستا للحصول على الشهادة والوظيفة وإنما لتحقيق الذات الفردية والاجتماعية القادرة على تحقيق السيادة والريادة والأفضلية، بالقدوة الحسنة الجاذبة التي تجعل الآخرين يقلِّدون ويتبعون، وبمعنى أن يتحول التغريب في مجتمعنا إلى أسلمة في مجتمعاتهم.
Hassan-Alyemni@hotmail.comTwitter: @HassanAlyemni