يقال لنا اليوم إنّ نظام الرهن لعقاري سينعش قطاع البناء وكأنما سوق البناء يحتضر ويحتاج إلى إنعاش، ولكن واقع الحال اليوم هو أنّ سوق البناء مستعر، وهو نار في نار. فشركات الأسمنت مثلا ً تضاعفت أسعارها، وتناهب الناس أكياسها. وجميع مواد البناء في أفضل الأحوال تضاعفت
أسعارها، فالبلد يمر بفورة معمارية كبرى ولا يحتاج إلى إنعاش بل يحتاج لمهدئات. المشاريع الحكومية التي ترسى على شركات كبرى شفطت عمالة المشاريع الصغرى، كان سعر العظم مئتي ريال فأصبح 450 ريالاً، سعر أعمال الدهان الرخيص الميسّر للمواطن كان 9 ريالات للمتر فقفز إلى 28 ريالاً، والمبلِّط أصبح يتدلّل ويشتغل يوماً ويوماً لا بأسعار مضاعفة، وقس عليه السباكة والكهرباء وغيرها. فشركاتنا العملاقة لديها مشكلة مع الاستقدام، وتبحث عن عمالة من الباطن غير مدرّبة رخيصة الثمن تدخلها على مشاريع الدول بسعر العمالة الأوربية المدرّبة. وأصبح بعضها يستخدم حتى العمالة الهاربة من خلق الله المستضعفين عبر شركات وساطة وظيفتها أشبه بوظيفة محلّلي النكاحات، تقدم العمالة وتتحمل مسئولياتها النظامية أمام الجهات المختصة.
معدّل متر بناء خلق الله المستضعفين كاملاً جاهزاً يتراوح بين 1200-1500 ريال المتر وقفز اليوم 500 ريال، ومعدّل متر مباني القطاع الخاص قد يزيد بعض الشيء، أما متر بعض المشاريع الحكومية، إذا ما استثنينا التعميد المباشر، فهو 10000 ريال على افتراض مواصفات بأعلى المستويات، وبعض المشاريع وصل سعرها 19000 ريال، فالحكومة كريمة مع المشاريع ولا تريد ترك أي فرصة للتقاعس أو التلاعب بالمواصفات، ولكن بوادر الأمور هي أنه كل ما ازدادت الحكومة كرماً ازداد المقاولون الكبار طمعاً وكسلاً، وأصبح المتر يرسى من الباطن على عمالة شبه سائبة دون رقيب أو حسيب، لا سيما وأنّ عطاءات بعض المشاريع ترسى دون دراسة متأنية، وفي فترة وجيزة بين عشية وضحاها من مبدأ “خل نغنم الطفرة، والدولة قاعدة تكب فلوس”. قال لي شخص يعمل بالدهان بأنه يعمل لدى رجل من جنسية عربية من الجنسيات التي تدعى أنها أوربية نخب ثاني، يعمل كدهان بمعدل 19 ريالاً المتر، المقاول العربي أخذ المشروع من شركات مقاولات ضخمة بمعدل 49 ريالاً المتر، أما سعر الشركة الأم فيعد سراً لا يعلمه إلاّ المسئولين عن المشروع.
وفي حادثة أخرى هرب مبلّط بعد خلاف بسيط مع مواطن وتركه يبحث عمّن يكمل عمله وهو أمر أشبه بالمستحيل، لأنّ العمالة تتكاتف على من لا ينصاع لها أو يختلف مع أحد من طبقتها، أو صنعتها بأن ترفض استكمال عمل لم ينته نتيجة لخلاف، وإن كملته فتكمله بسعر عقابي يضاعف الثمن. وبعد السؤال عن السبب الحقيقي لهرب صاحبنا اتضح أنه هرب للعمل في تبليط أحواش مشروع حكومي “بلياري” شمال الرياض، حيث يوجد حسب كلامه، أمتار لا نهاية لها، وسعر مضاعف، ولا متابعة للعمل.
وهناك ظاهرة غريبة جداً اليوم وهي أنّ السباك لم يَعُد سباكاً، والمبلّط لم يَعُد مبلّطاً، والدهان ليس دهاناً، والكهربائي ليس كهربائياً فهو تحوّل لمعلِّم فقط يشغل أربعة أو خمسة فرق في مواقع مختلفة، وهو لا ينفك عن شكر هيئة الاستثمار التي حوّلت عمالتنا السائبة سابقاً لمستثمرين حاليين، وهو يكتفي بالمرور فقط مرور الكلام ليقول لصاحب العمل: “والله، أنت معلوم، الشغل كويس، كله نفر يشتغل كدا”، رغم أنّ الشغل كله أخطاء، وكما يقال “يحوم الكبد”، وترجمة هذا الكلام هي: “انت تفهم وإلا لا، عاجبك وإلا رح بلط البحر، ما فيه إلا من هذا واردى”. تتصل بصديق تطلب المساعدة، حسب نصيحة جورج قرداحي، فيرد عليك: “كل السوق كذا ورد بالراحة”. وستصدم عندما يبرز لك سعادة “البيه” المبلّط، أو السبّاك إقامته فتقرأ فيها المهنة “راعي أغنام”، أو “سائق عائلي” الخ.
المستثمرون الجدد، إذا جازت لنا التسمية، يأتون بأبنائهم وأقاربهم ليدرّبوهم عندنا: هذا ولد أنا، وهذا أبن أخت أنا، وهذا زوج بنت أنا، وهلم جرا. عوائل وفخوذ قبائل كاملة استقدمها الاستثمار لنا. عمالة غير مدربة تتعلّم الحلاقة في رؤوس المساكين. يصبَح عاملاً ويمسي مقاولاً. واليوم أصبح سعر الحرفي الحقيقي أعلى من سعر دكتور الجامعة. وهذه ليست مبالغة، فقد سألني أحدهم عن راتبي وقال لي أنت مسكين، أنا اطلع كثرك ثلاث مرات، كيف؟ من توظيف الأقارب والعمالة السائبة. والحقيقة أني تعوّذت بالله من الشيطان الرجيم ووسواسه الأثيم. نحن نعتز بخصوصيتنا، ومن خصوصيات بناء مسكن العمر لدينا، أنّ الناس ترى أنّ من خصوصيات العمار لدينا الضغط والسكر، وتضاعف التكاليف، فما أن تبدأ بالعمار تقفز الأسعار، وتعرف سريعا أن ذلك ليس إلاّ الإنذار الأول فقط، فكل مرة تذهب للسوق تجد الأسعار سبقتك في ارتفاع مرة أخرى، فتضطر لشراء أول ما يقابلك وتخزينه حتى لا تطير الأسعار خارج نطاق قدرتك ويبقى بيتك لأعوام عظم بلا لحم، ولا نقول شحم. ثم تكتشف أنّ ما خزنته ليس هو ما تريده. وهذا كله كوم، والبضائع المغشوشة كوم آخر، تشتري بضاعة على أنها أوربية أو أمريكية فيقال لك فيما بعد هذا صيني بمواصفات أوربية، أو صيني بمواصفات أمريكية!! وهذا أدعاء تعلمه التجار السعوديون من أقرانهم الصينيون، وترجموه للمستهلك السعودي، والحقيقة أنّ الصيني صيني والمواصفات صينية ومن نخب ثاني رخيص لأنّ النخب الأول يصدر لأوربا ويباع بأسعار أرخص. كل ذلك والسكر يرتفع شيئاً فشيئاً في دمك.
زد عليه أن قطاع المقاولات لدينا ليس له أي تنظيم عدا أن العقد شريعة المتعاقدين، عقد مختوم مسبقاً من مؤسسة بسعر مقطوع من قبل مؤسسة لها مقر في أبعد نقطة عنك في المملكة وباسم امرأة أو شخص تستشعر أن لا علاقة له بهذه المهنة. والعقد طبعاً يكتبه صاحب المؤسسة ويبيعه كورق، الصفحة بالمبلغ المقدّر كنسبة من العقد. ومن أول بنود العقد أن الدفعات مقدمة، أي يأخذ العامل دفعته مقدمة قبل كل مرحلة من مراحل العمل، وإذا لم يعجبك الشغل، أو حصلت أخطاء حتى ولو فادحة فيه، فكل ما بيدك أن تعمله هو أن تبحث عن مقاول ثانٍ وتتعوّض الله فيما دفعته. ولو لا سمح الله هرب بدفعتك فمن المستحيل أن تجده لأنّ مقره ونيت عليه سلم. وضع العمار لدينا أقل ما يقال عنه أنه مأساوي بوضعه الحالي، فكيف بعد الرهن العقاري؟ والوضع سيئ ليس للفرد بل وللمشاريع الحكومية أيضا، مبانٍ حكومية تخر مياهاً، أو تتعطل مصاعدها، ويهبط بلاطها، أو تتقلع شبابيكها بعد أشهر قليلة من استلامها، كل ذلك نتيجة أخطاء بدائية في التنفيذ، ولا حسيب ولا رقيب، ولو لم يكن لهيئة مكافحة الفساد من المهام إلاّ فحص المباني الحكومية والتأكد من سلامة مواصفاتها لانشغلت بذلك لسنوات عن بقية مهامها. والعجيب هو أن مثل هذه الأمور لا تحصل في مشاريع القطاع الخاص حيث يتابع أصحاب المشاريع أعمالهم.
الخلاصة البلد يحتاج لوزارة تسمّى وزارة الأشغال يقتصر عملها على متابعة مشاريع الدولة من منشآت وطرق، وحفريات، وقطارات وغيرها، ويحتاج إلى شركات مساهمة للمقاولات تنفذ هذه المشاريع ليستفيد منها المواطن المسكين، ولتوظف شباب الوطن العاطل عن العمل، فحاجتنا لمثل هذه الوزارة والشركات أكثر من حاجتنا لنظام لرهن عقاري يلهب الأسعار ويزيدها استعاراُ، ويحيل الفوضي الحالية إلى مزيد من الفوضى. وكل عام وأنتم بخير بقدوم رمضان، جعلكم الله من صوّامه وقوّامه وتقبّل الله خالص أعمالكم.
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif