تأليف: الأستاذ الأديب حمد بن عبدالله القاضي
قراءة: حنان بن عبدالعزيز آل سيف - بنت الأعشى-
المقالة فن عربي حديث، وقد ورد ذكرها في الشعر العربي القديم، من ذلك قول الشاعر كعب بن زهير:
مقالة السوء إلى أهلها
أسرع من منحدر سائل
ومن دعا الناس إلى ذمة
رموه بالحق وبالباطل
ولا أجمل من ورود لفظة المقالة في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم في قوله في خطبة الوداع: (نضر الله امرءاً سمع مقالتي فحفظها ورعاها وأداها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه).
وهي قطعة من النثر لها طول محدد، وتكتب بعفوية، ويعبر فيها الكاتب عن نفسه، ولابد أن تتسم بسمات عدة كالأصالة والإقناع والإمتاع والانفصال الوجداني، والعبارات الواضحة المنتقاة، ولابد فيها من دقة وتآلف الأجزاء، والتناسب بين ألفاظها ومعانيها وشكلها ومضمونها، وقد انتشر ظهورها بظهور الصحافة، وهي تختصر الجهد وتقلل العمل، وتتسع لكل خطرات الناس وأهوائهم، وفن المقالة يعد من أطوع الفنون الأدبية، إذا احتاجت فنون الأدب إلى معاناة دربة وجهاد طويل، وبين ناظري كتاب أسلفت لك عنوانه ومؤلفه وتتلخص الأغراض السابقة فيه، هذا الكتاب يعد فضاء واسعاً متعدد الفنون أبدع فيه الأديب الأريب حمد بن عبدالله القاضي حفظه الله ورعاه، وقد ظهر فيه حسه الأدبي وافراً، وحملت مقالاته حداً عالياً من المعاني السامية، فقد طرق فيها شجون اللغة العربية وبكى حاضرها وتطرق إلى رسم ماضيها الأشم، ولم تكن مقالاته رصف كلمات أو رسم عمود على وسم أديم الصحيفة أو المجلة، يقول الأستاذ الأديب القاضي في ناصية كتابه ما نصه: (هذا الكتاب إنما هو قراءة في بعض ملامح الثقافة في هذا الوطن الذي أعطى كل الاهتمام لمعادلة الثقافة تماماً مثلما أعطى لمكتسبات التنمية الأخرى من حضارية وزراعية واجتماعية وصناعية.
إن هذا الكتاب رحلة بين مسارات الثقافة، وأسفار الكتب وعوالم الشعر، وهو ليس دراسات تحمل الصيغة العلمية ولكنه كلمات تحملها أشرعة الوطن والثقافة - كما أسميته - لينتقل القارئ بين صفحاته من كلمة إلى أخرى ومن قراءة إلى ثانية ومن حقل حرف إلى بيدر عطاء). والمطلع على تجربة المؤلف رعاه الله يلمح الأسلوب الفني الأدبي الرفيع الذي اتكأ عليه منشئ الكتاب، فقد انطبع أسلوبه بالسمة الإنشائية، التي تعتمد على اختيار ألفاظ أدبية مؤثرة رنانة حماسية، وظهر أسلوب الحماسة في تحقيق الأمل الذي يرمي إليه المؤلف فيما يخص مستقبل اللغة العربية والتراث التاريخي الأدبي الجميل، هذا وقد ظهر حماسه بلغة راقية ناصعة البيان، وأسلوبه أدبي مميز يختلف بكثير عن غيره من أساليب الطرح الصحفي، وهو يوحي بالرسالة الثقافية المسؤولة عن إحياء اللغة العربية ومستقبل التراث الأصيل، والتغني بشجونه وآلامه ويتضح هذا المعنى في قول المؤلف: (إنني على يقين أن هذه الأمة مهما كانت فرقتها وتفرقها ومهما وجهت خناجرها إلى بعضها، وتوجهت رماح أعدائها إلى قلبها فإنها باقية خالدة، وإن حالة الضعف إنما هي حالة مؤقتة، وكل الأمم مرت وتمر بأقسى وأعنف مما مرت به هذه الأمة، ولكنها سرعان ما تسترد عافيتها وتنبذ فرقتها، وتعود إلى عقد التاريخ لتكون واسطته وإلى المجد لتكون في ذروته - فلا تيأسوا - يا أبناءها من روح الله فإنها كما قال شاعرها:
إذا احتربت يوماً فسالت دماؤها
تذكرت القربى ففاضت دموعها
إلى أن يقول: (إن هذه الأمة موعودة مع المجد بإذن الله، وهي لن تموت، فقد حفظ الله لها كيانها ولغتها، ما حافظت على إيمانها وحفظت قرآنها ونبذت نزاعها، لا جرم أننا نتلظى على جمر واقع مؤلم، فأراضينا مستباحة، وكرامتنا مهانة، لكن هذا ليس هو نهاية المطاف، وليس هو الواقع الذي سيستمر ويبقى، إنه لابد لهذه الأمة من عودة، إنها ستكون بإذن الله على موعد مع أعراس الكرامة والمجد والجهاد، إن أقسى ما يصيب الأمم أن تستكين وتستسلم للنهاية تحت حيطان اليأس، إن علينا أن نرش دفقات الأمل والصمود في جوانح الأجيال القادمة).
وعناوين المقالات مستقاة من مضامينها والجميل فيها هو التجمل بمصارع الأبيات الشرعية، ومن هذه العناوين التالي: (أيها الشامخ: تحية لك في أيام حصادك، هموم ثقافية خليجية، قبل أن يفيض الطوفان، بين جائزتي فيصل ونوبل، لوعة الحزن في رثاء (ابن الرومي)، هل دالت دولة الشعر، امرأة تجذ صغيرتها، وشباب يجمعون الطوابع، الزمخشري بين اخضرار تونس وصبا نجد، شاعر يشارك الحمام أشجانه، د. العثيمين و(نهونة قصيد).
وهذه المقالات واعية جداً لوظيفة الأدب، ورسالة الأديب القاضي الذي يمارس ضرباً من الرسالة الثقافية المسؤولة عن إحياء الأمة العربية، ونهضة المجتمع العربي، وهذه الرسالة تستهدف المجتمع العربي، وتجاري واقعه الراهن وتحث على تجشم الصعاب التي تعترض سبيل الأمة العربية ويمثل هذا الاتجاه قوله: (كم يؤلمنا عندما نستمع إلى حوار بين مجموعة من الشباب، أو نصغي إلى ما يدور في مسابقة ثقافية، فنجد أغلب هؤلاء الشباب يعرفون عن (نابليون أكثر مما يعرفون عن صلاح الدين ولهم كامل الاطلاع على أسرار حياة (مايكل جاكسون) ولا يقابل ذلك أدنى معرفة ببطولات أسامة بن زيد ونجدهم يحفظون تاريخ بريجيت بارود ولا يدركون شيئاً عن تاريخ وبطولات خديجة بنت خويلد، وهم بالتأكيد يعرفون عن أهداف (بيليه.. أكثر مما يعرفون عن تضحيات بلال، أشياء مماثلة لكنها حقائق واقعة).
هذا وقد كان القاضي صادق العزم صحيح العزيمة، فيما يطرح من آراء تظهر طموحاته وآماله، فهذه المقالات هي شعور ذاتي وجداني يصور من خلالها مجتمعه السعودي وثقافته التي يدين بها، وقد اتصفت المقالات بلغة منقحة رصينة عالية الأسلوب، قوية التعبير لا تظهر فيها سمة العجلة ولا لمحات الارتجال التي تتصف بها المقالات العادية، فمقالاته أبعد ما تكون عن ارتجالية المقال، وآنية اللحظة، وهي تتميز بالاختيار الحسن المتأني لإطار مقالاته.
وأخيراً:
لقد تألق المؤلف حفظه الله في كتابه هذا شكلاً ومضموناً لفظاً ومعنى كتاباً وعنواناً،وكان يقرأ فيه أعمالاً شعرية جميلة وقد تألق في هذا، والطريف في الأمر هو قراءته لأعمال شعرية شعبية نبطية، مثل قراءة ديوان الشاعر الدكتور عبدالله الصالح العثيمين، وهي قراءة جميلة توحي لك بوعي المؤلف وتلذذه بالشعر الشعبي المعبر الهادف، ومما يلفت النظر في قراءة هذا الكتاب هو تعدد اهتمامات الكاتب ومواهبه، وهو من كبار الكتاب سواء جاء كاتباً عن فكرة أدبية أوقصة فنية و قراءة شعرية أو هم اجتماعي، فظاهرة التنوع الثقافي هي الغالبة على الكتابة وفنونه.
عنوان التواصل:
ص.ب 54753 الرياض 11524
فاكس: 2177739
****
الطبعة الأولى لعام 1419هـ.
ينظر في موضوع المقالة الأدبية كتابين وهما:
الأول: التحرير الأدبي - دراسات نظرية ونماذج تطبيقية.
تأليف: الدكتور حسين علي محمد، طبعة العبيكان، الرياض السادسة لعام 1430هـ 2009م.
الثاني: في الأدب السعودي الحديث.
تأليف: الأستاذ الدكتور حسين علي محمد، الطبعة الثانية 1430هـ - 2009م، الرياض دار النشر الدولي.
nanan.al saif@hotmail.com