من المناظر المألوفة في القصص الفكاهية هو مشهد شخص صحيح العقل يوضع في مصحة نفسية خطأً، ويتبع ذلك الكثير من الأحداث الطريفة والتي لا شكّ أن كل من رآها أضحكته خاصة وأنها بعيدة عن الواقع، وكل من سمع أو رأى مثل هذه المواقف يوقن أنها لو حصلت في الواقع لاكتشف المسؤولون هذا الخطأ، ولميّزوا الصحيح من السقيم، ونظن خاصة في أنفسنا هذه القدرة، فإذا فشل غيرنا في إقناع طاقم المستشفى أنهم أصحّاء فنحن ولا شك سنكون أقدر على إثبات براءتنا من أمراض العقل وسنخرج فوراً مع تحية الأطباء واعتذارهم الحار! لكن الحقيقة مظلمة لو عرفتموها، فهذه المشاهد ليست مبالغاً فيها، بل هي الحقيقة عينها، والفضل يعود لتجربة أجراها العالم النفسي الأمريكي ديفد روزنهان عام 1973م أظهرت أنك لو وُضِعتَ في مصحة نفسية غلطاً فالسلام عليك، لأنك ستمكث هناك إلى ما شاء الله ولن يصدق كلامك أحد!
ما حكاية هذه التجربة؟ إنه أمر مُقلِق في الحقيقة، فقد اتفق روزنهان مع 12 من معارفه أن يوضعوا في مصحة نفسية ويدوّنوا تجاربهم، ولم تكن مصحة واحدة فقط بل 12 مستشفى نفسيًا في خمس ولايات مختلفة، بعضها في مناطق ريفية، بعضها متقدم في جامعات معروفة، وأحدها مستشفى خاص مُكلّف الأسعار، وذلك لئلا تُحصَر المشكلة أنها في مستشفى معين، وهؤلاء المرضى الزائفون تناوعت مهنهم، فمنهم تلاميذ في الطب النفسي، ومنهم علماء نفسيون، ومنهم طبيب أطفال، ورسام، وربة منزل، وليس لأي منهم أي أمراض نفسية أو عقلية سابقة، بل هم في تمام الصحة، واستخدموا أسماء مستعارة لئلا ينبش أحد أطباء المستشفى في تاريخهم، فذهبوا للمصحات المتنوعة وشكا كل منهم أنه يهلوس ويسمع أصواتاً في عقله، وجلس معهم الأطباء النفسيون يقيّمون أوضاعهم، فأما بعضهم فَحَكَم الأطباء أنهم مصابون بمرض الفصام، وهو مرض يورث الهلوسات الصوتية والتخيلات الغريبة وتشوشاً في التفكير والكلام، وأما آخرون فقال الأطباء: إنهم مصابون بمرض اضطراب ثنائي القطب، وهو مرض أبرز أعراضه حالتان يتراوح بينهما المريض وهما الكآبة ومن ثم حالات من الابتهاج المفرط، رغم أن كل الاثني عشر متطوعاً كانت لهم نفس الأعراض، والأهم من هذا كله أنه لم يميز أي من المسؤولين أن هؤلاء «المرضى» ليس بأيٍ منهم علة! بعد أن دخلوا المصحات توقفوا عن الشكوى وعادوا كما كانوا من تمام العقل والتصرف الحسن، بل أظهروا ذكاءهم فأخذوا أقلامهم وكراساتهم وجعلوا يكتبون ما يرونه حولهم، وكان هذا جزءًا من التجربة، ورغم ذلك لبثوا في المصحات ولم يصدقهم أي شخص، ما عدا بعض المرضى الآخرين.
ظلوا محبوسين في المصحات، وكان كل تصرف لهم يُحلّل حتى لو كان طبيعياً، فأحدهم لما أخذ كراسته يكتب عن هذه التجربة راقبته ممرضة وقالت: إن المريض يمارس «تصرفات كتابية»! لما أرادوا الخروج من المصحة ذهبوا للمسؤولين وأفادوهم أنهم أصحاء وأنهم راغبون في الخروج، والإجراء أن لا يخرج شخص إلا بإذن الأطباء ليقيّموا حالهم وإذا ما كانوا جاهزين للخروج، وبما أن هؤلاء المتطوعين ظلوا على حالٍ من اللطف والتعاون ولم يُظهِروا أي عدوانية أو خطورة على أنفسهم أو على غيرهم فقال الأطباء: إنهم لا يمانعون خروجهم لكن ليس فوراً وإنما لاحقاً، بشرط أن يشهدوا على أنفسهم أنهم مرضى! ليس هذا فقط بل عليهم تناول الأدوية النفسية، وبعد فترة من «التحسن» قد يسمح لهم الأطباء بالخروج! أخذ المتطوعون الأدوية لكنهم تخلصوا منها -بدون علم الممرضات-.
أقلهم مكوثاً ظل 7 أيام في مصحته، وأطولهم استمر 52 يوماً، ولما عاودوا الكَرَّة محاولين الخروج كان معهم هذه المرة العالم روزنهان واصطحب معه محامياً في حال رفَض المسؤولون خروج المتطوعين، وخرجوا كلهم بعد هذه التجربة الفريدة التي أثبتت أن تلك المشاهد الفكاهية التي رأيناها ستحصل بالتأكيد لو كانت في عالم الواقع، وحينها لن تكون طريفة إطلاقاً!