ينتاب المَشاهد الفكريةِ والسياسيةِ والدينيةِ طائفٌ من التساؤلات الحائرة, في أعقاب الثورات: العلمية والتقنية والشعبية.
ولست أشك بأن ما يسمى بـ(الربيع العربي) ناتجٌ طبعي لتلك الثورات.
وإن كان إطلاق الربيع إطلاقاً متفائلاً باذخاً, إذ المرحلةُ الانتقالية المفتقرة إلى ثقافة المستجد, وإلى الوضع الملائم, ستكون عصيبةً, وموجعةً, وقد يطول أمدُ عودتها إلى جادة الصواب. والبوادر تشي بأن تتفرق بالثائرين بُنيات الطريق, ثم يلاقيهم ما يفرون منه من فرقةٍ واستبدادٍ وظلم, كملاقاة الموت للفارين منه. وكل المؤشرات لا تبشر بخير. فالحرية التي داهمت الشعوب, وهم بعد لم يتهيئوا لها, أحدثت عندهم صدمةً مربكةً, وأحيت نعراتٍ, تفتخرُ بالأحساب, وتطعن في الأنساب, كما أنها حرّكت كوامن الطائفيات المضمرة. ولما لم يأخذوها بحقها, فقد تحولت إلى فوضى مستحكمةٍ, وغير خلاقة. ولاسيما أن المكبوت والمكنون وجدا أجواءً آمنةً للفيضان, ومن ثم اختلطت الأصوات.
وثورات الشعوب التي امتدت كما النار في الهشيم, والتهمت القلاع الورقية, تختلفُ عن الانقلابات العسكرية بعنفها, ودمويتها, وتسلطها, وكبتها للحريات, ولقد سميت الانقلابات ظلماً وعدواناً بالثورات, وما هي كذلك, وكم هو الفرق بين الثورة والانقلاب.
ولقد يصاحب العنفُ الثورةَ الشعبية, إذا دخل الجيش طرفاً فيها: قامعاً أو مدافعاً.
لقد أيقظت تلك الثورات الشعبية الحريةَ من مرقدها. والحريةُ حين لا تُكتنفُ بثقافتها, تصير فتنة عمياء, لا يصيب ضررها أهلها خاصة, وقد لا ينقطع دابر فتنتها إلا بفتنةٍ أشد من القتل, وذلك ما نشاهده في الساحات والمواقع والقنوات. ولأن الثورات السياسية ناتجُ متغيرات متعددة وثورات متنوعة, فإن ضبطها لم يكن بالقدر الكافي. والداخلون على المواقع, والقارئون للصحف (الإلكترونية) تفاجئهم سفاهاتٌ وبذاءات وتنابز بالألقاب, وهو فسوق بعد الإيمان.
والمؤلم أن تلك النقائض الموغلةِ في الرذيلة, يُشَرْعَن لها باسم الحرية المكتسبة. والظاهرة السلوكية الناشئة عن ثورتيْ الاتصالات والمعلومات, عزّزتها ثورةُ الشعوب على حكّامها, المُكممين للأفواه, ومن ثم التقى الهرج والمرج على أمرٍ قد قُدر.
ولست بهذا القول متشائِماً, ولا متحاملاً, ولا محبطَاً, ولا يائساً. ولكني أتوسل بالمصداقية, وأطّرِحُ المجاملة والتفاؤل غير المشروع, وغير المبرر.
فالتقنية الدقيقة, أو ما يسمى بـ(النانو)، أسهمت بالشفافية التي تجاوزت التعري, دون أن يكون هناك وَرِقٌ ليُخصف عليه. ولقد استعاذ (أبو هريرة) - رضي الله عنه - من زمن العري, وهو يتحدث عن أشراط الساعة. وقصة (آدم) - عليه السلام - وخروجه من الجنة مرتبطةٌ بِبُدو السوءة: الحسية والمعنوية.
وما نشاهده ونعايشه من تعرية فاضحة لكل الأوضاع, ونقلٍ فوري لكل الأحداث, وملاحقة ملحة لكل المقترفات, وتحبيسٍ بالصوت والصورة لكل الممارسات, على مختلف المستويات, قلب الأوضاع, وغيّر القناعات, وكسر النمطيات.
هذا الفضول جاء بفضول مثله, حتى لا ينفك المتابع للمواقع من الشيء ونقيضه.
فالغلاة والجهلة والمبطلون في كل نحلة أو ملة, يحتلون القنوات والمواقع وسائر وسائل الإعلام, ويقولون منكراً من القول وزوراً, يسيء لمللهم ونحلهم, ويكشف عوارهم, ويبعث على النفور منهم. وما أتيحت هذه الفرص لمثل هؤلاء المتعفنين إلا من بعد ما تململت الشعوب المقهورة من تحت وطأة الظلم والاستبداد, ومن بعد ما تقدمت التقنية التي هتكت الحجب, وعرّت المستور. وهذا الغثاء الممل الذي يتقيؤه الناقصون عقلاً وديناً, سيكون له أثره السيئ على المعتقدات والسلوكيات. وقد تضمحل معه نِحلٌ موغلة في الخرافة و(اللا معقول), وتعلو به أخرى, محترمةً للعقل, متصالحة مع العلم, وتبيد خطاباتٌ كانت سائدة, وتتصدر رؤى كانت مهمشة. فما عادت الفتاوى وقفاً على أهل الذكر, وما كان العلم المضنون به على غير أهله مرتهناً لذويه. فالقنوات الطائفية والفكرية والحزبية تستبق في سبيل التعرية والافتراء وقول الزور. والمتابعون من العامة - وهم المقصودون بالفتنة النائمة الملعون موقظُها - لا يملكون المعرفة التي تمكنهم من التمييز بين الحق والباطل, وتحميهم من مضلات الفتن. ويقيني أن العالم الإسلامي يقف على مفترق الطرق, وأن الرابح الوحيد في هذه اللجاجة هم أعداء الأمة العربية والإسلامية.وكيف لا نتصور تحولات مخيفة للفكر العربي والإسلامي؟ وكل مَوْتور يمتلك الحرية المطلقة في قول ما يريد, والرأي العام مغرم, بل هو مهووس بملاحقة ذلك الطفح الرخيص, الذي يخيف المخيفين. وكيف لا يخاف المسلم, ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد غضب حين رأى ورقةً من (التوراة), في يد عمر بن الخطاب؟ ومَنْ مثل عمر في قوة إيمانه, ومعايشته للوحي والإعجاز؟ ومَنْ مثله في قوة العقل, ونفاذ البصيرة؟ إن الخوف من خطورة التحول في ظل هذه المتغيرات في محله, ومن يستخف بما يجري, يؤتى من مأمنه. وفي ضوء هذا الخلط العجيب, لن نتمكن من تصوُّر المصائر, وليس لدينا رهانٌ حول طبيعة التحول, وإن قطعنا بحتميته. ولسنا متشائمين, ولا متفائلين, ولكننا حين نكون متوقفين, نخاف من أن يتفلت شبابنا من بين أيدينا, وما الفئة الضالة إلا مؤشرٌ خطيرٌ لهذا التفلت. ومن تعقب التغريدات التي هي بمنزلة فلتات الألسُن, يدرك أن وراء الأكمة ما وراءها, وها نحن بين الحين والآخر نصدم بتغريدةٍ تدنس المقدس, أو تتطاول على الذات الإلهية, أو تشكك بالمسلَّمات والثوابت. وتلك من الظواهر الغريبة على مجتمعٍ سلفي تربى في أحضان علماء حظوا جناب التوحيد, وهذا يؤكد ضعف تأثير المؤسسات التقليدية: البيت, والمدرسة, والمجتمع, ويقلل الثقة بخطبة الجمعة التي تنيف على خمسين ألف خطبة في السنة.
يتبع...