* لا يستطيع المرء منا أن يتابع كل ما يتم نشره وبخاصة بعد تعدد وتنوع قنوات المعرفة ووسائط النشر، التي تأتيك من بين يديك ومن خلفك.. لكن لفت نظري الصديق م. أحمد بن عبدالله التويجري إلى مقالة نشرها الكاتب د. عبدالعزيز السماري في بداية شهر رمضان (1-9-1432هـ) في هذه الصحيفة، وقد سمعت تعليقات كثيرة عليها في عدة مجالس وكان عنوان المقال «أخطار الكثافة السكانية في المدن والقرى الصحراوية».. وقد طرح فيها «رؤية» أتفق معه في مجملها وأختلف معه في تفاصيلها وأسبابها، المقال تناول مطالبته بالهجرة السكانية من المدن الصحراوية إلى المدن الساحلية بحكم الموارد فيها مثل «المياه» وليت الكاتب دعا إلى المزيد من تنمية المناطق القليلة السكان لكيلا يهاجر سكانها إلى المناطق المكتظة سواء الساحلية أو غيرها، وهذا يتم بإيجاد الحوافز التي تجعل المواطنين يبقون في مدنهم ومحافظاتهم وقراهم، وأهم حافز للحد من الهجرة والانتقال إلى المدن الكبرى هو توفر فرص العمل لهم في القطاعين الخاص والعام.
* سأتوقف مع ما أختلف فيه مع الكاتب إلى 180 درجة، وهو: الأسباب التي أوردها لهجرة أبناء المناطق الصحراوية إلى المناطق الساحلية وقد صبغ ذلك بصفات وعبارات غير لائقة نعت بها المدن والمناطق الصحراوية وأهلها، وقد ضرب مثلاً بهذه المناطق «بالرياض والقصيم وسدير والخرج والحوطة والحريق والوشم وحائل» حيث دعا تحديداً إلى تشجيع انتقال أهالي هذه المناطق إلى المناطق الساحلية، تاركين مدنهم وقراهم بسبب صعوبة إمداد هذه المناطق بالمياه المحلاة مستقبلاً، وإلى هذا الحد والسبب الذي أورده الكاتب قد يكون مقبولاً لكن ليس صحيحاً على إطلاقه، فهناك العديد من المدن والمناطق في بلادنا، بل هناك آلاف المدن في هذا العالم تعيش على المياه المحلاة فهذا السبب لا يصح أن يكون مبرراً لهجرة أهالي المناطق الصحراوية، إن المشكلة في المياه في تكلفة تحليتها الباهظة، وليس نقلها، وهذه التكلفة تتساوى فيها كل المناطق في بلادنا وفي دول العالم التي تعيش مدنها وقراها على التحلية سواء منها الساحلية أو الصحراوية.
* هنا آتي إلى السبب الثاني والغريب جداً في دعوته إلى الهجرة المعاكسة: هجرة أهالي نجد كما حددهم في بداية مقاله إلى المناطق الساحلية، فلم يوفق الكاتب في هذا الحديث، فقد جعل المبرر لدعوته إلى هجرة المناطق الصحراوية «الانغلاق والمحافظة الشديدة».. هكذا بتعميم غريب عجيب.. ويضيف إلى أنه حتى المهاجر إليها -أي إلى المناطق الصحراوية- يتكيف مع هذه التقاليد التي تقف ضد خطط التنمية والانفتاح.. وغريب مرة أخرى، فنحن نرى بالعين المجردة أن هذه المناطق الصحراوية نافست في تطورها وتنميتها كثيراً من المدن الساحلية العالمية التي سبقتنا في مشوار التنمية والتطور، ودونك الرياض «لؤلؤة الصحراء».
* وأدعكم مع نص الكاتب في الجزئية التي أورد فيه سبب الهجرة: «في جانب آخر يتصف سكان المناطق الصحراوية بالانغلاق والمحافظة الشديدة، عادة ما يتكيف المهاجر الجديد مع تلك التقاليد التي تقف مانعاً ضد خطط التنمية والانفتاح، والجدير بالذكر أن أغلب المواقف المناهضة لتدريس المرأة وعملها ومشاركتها في التنمية جاءت من سكان القرى المتزمتة، وطالما ما استغربت الاستثمار في مشاريع المباني الشاهقة وناطحات السحاب في مدينة الرياض، برغم من وجود ممانعة اجتماعية ضد التنمية الاقتصادية، ولا زلت أبحث عن إجابة عن جدوى بناء مدينة صناعية في سدير الفقيرة بمقومات الصناعة ومصادر الطبيعة، كما أستغرب في كثير الأحيان الترويج لمهرجانات للسياحة في تلك المناطق التي ترفض المرح وتمنع الموسيقى، ويعتبر أهلها كثرة الضحك من أسباب موت القلب والعياذ بالله، لذلك وبكل وضوح لا تساعد مشاريع الترويح السياحي في تغيير الطباع القاسية لأهل الصحراء» أ.هـ.
هكذا يطلق الكاتب أحكامه على عواهنها ويحاول أن يكرس كلامه الجازم على تهافته.. إن العجب أن يحكم على الكل من خلال عدد محدود، إذ ينعت أهالي منطقة كاملة هي «منطقة نجد» -وهو من أبناء هذه المنطقة- بصفات غير لائقة وعبارات قاسية بناء على تصرف آحاد فيها قبل عدة عقود، ودعوني أتوقف عند بعض الأفكار التي بثها فأولاً:
استغرابه من قيام ناطحات سحاب ومبان شاهقة فيها رغم وجود الممانعة الاجتماعية؟ كيف يستقيم هذا؟، فنحن نرى أن «الممانعة الاجتماعية» كما وصفها والموجودة في رواق ذهنه لم تقف أمام قيام ناطحات السحاب بالرياض، ولو كانت موجودة لما تم سموقها على أرض العاصمة، فهو يناقض نفسه بنفسه ثم ما دخل «الممانعة الاجتماعية» بالبناء المعماري سواء كان شاهقاً أو غير شاهق.. وثانياً: أتوقف عند إشارته إلى معارضة تعليم المرأة بادئ الرأي في جزء محدد من نجد، وهذا فعلاً تم ولكن قبل عشرات السنين، وتم من قبل عدد محدود وكانت الأغلبية ترغب وتدعو إلى تعليم المرأة.. وما علينا من الماضي فهذا هو الحاضر الذي ينادي فيه بفكرة الهجرة بسبب ما يعتقد من وجود (تقاليد) هي في ذهنه وليست على أرض أو في أذهان الناس حيث نرى بنات هذه المنطقة الآن كشأن أخواتهن في مناطق المملكة درسن وتعلمن وتخرجن وعملن وأصبحن طبيبات ومعلمات وإداريات وكاتبات وأخصائيات ومديرات إلخ.. ينتشر عطاؤهن في مفاصل التنمية وشرايين الإنجاز في بلادنا بل أصبح منهن نائبة وزير بدرجة معالي، ومنهن مديرة جامعة لواحدة من أكبر جامعات البنات في العالم إن لم تكن أكبرها، وفي هذه الصحراء التي وصفها بالتقليدية وأهلها بالممانعة الاجتماعية وما أقسى ظلم ذوي القربى!.
* أتوقف بعد ذلك عند النص الذي نقلته من مقالك حول «استغراباتك» التي لن تنتهي..! وهذه المرة حط استغرابك واعتراضك على إقامة المهرجانات السياحية؟.. غريب هذا المنطق نحن وأنت من هذه المناطق لم نر أهلنا يرفضون الفرح ولم نشاهدهم لا يضحكون.. بل إنهم اشتهروا بأهم أهل دعابة وشعر وفنون.. ثم: إن هذه المهرجانات السياحية تقام في كل المواسم منذ سنوات عديدة وتعانق النجاح وتلاقي الإقبال المنقطع النظير ولو لم تكن ناجحة وأن أهل هذه المنطقة يحبون الفرح ما كان لها هذا الإقبال عليها، ولما رعتها الشركات ومؤسسات القطاع الخاص.. إنهم -يا سيدي- يعشقون «الوناسة» ألم يقل أحد شعراء نجد الكبار «محمد القاضي»:
إليا حصل لك ساعة وأنت مشتاق
فاقطف زهر ما لاق والعمر ملحوق
لكنهم يعطون لكل أمر حقه فوقت الجد له زمانه، ووقت الترفيه له أوانه.
* أما أقسى ما في المقال فهو «الحل السحري» الذي طرحه الكاتب ليهاجر أهل نجد ذلك السبب لينأوا عن «الجلافة»، ويضحكوا و«يفرفشوا»، فالحل كما قال بالنص «بتشتيتهم» هكذا ما أقسى هذه الكلمة فكأنهم «.......»! ما أقسى ظلم ذوي القربى أخي عبدالعزيز مرة أخرى.
ودعوني أنقل لكم نص الكاتب الذي أورد فيه «حله السحري»: «لكن قد يكون الحل في تشتيتهم من خلال تشجيع هجرتهم للساحل مما قد يساعد في تخفيف حدة طباعهم، وقد تغيرت طباع بعض المهاجرين من الوسط إلى الشواطئ في العقود الأخيرة وأصبحوا يحبون الحياة ويطردون ثقافة الكآبة من بيوتهم. بعد عقود من الاستقرار تبدلت طباع البدو القاسية الذين استوطنوا المدن الساحلية وأصبحوا يعيشون من خلال صفات أهل الساحل، ويبدو أن للبحر سحر تأثيره على المجتمعات، بينما تطبع البدو الذي سكنوا في الصحراء بطباع وتقاليد حضر القرى الصحراوية، فظهروا أكثر تطرفاً ونفوراً من الآخر، واستلبوا طباع الحدة في إبداء الرأي ومراقبة الآخر والتدخل في شؤونه، لذلك نجحت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مدن الصحراء ولم تجد مثل هذا التعاون من سكان المدن الساحلية، لتصبح الحياة في القرى الصحراوية أشبه بحياة المطاردة اليومية».
* بدءاً أقول للكاتب: ما دامت بيئة وتقاليد هذه المنطقة بهذه القسوة وبهذا الشكل من كره الحياة والنفور وطباع الحدة -كما تقول- فلماذا أنت عائش فيها؟ ولماذا لا تنتقل من هذه البيئة التي ينتشر فيها «الضجر والبؤس وتقل لحظات السعادة» -هكذا كما تقول حرفياً-، لماذا لا تهاجر عنها ما دام أهلها متصفين بهذه الصفات.. أما كاتب هذه السطور فلو كان لا يعرف المنطقة وأهلها بوصفه أحد أبنائها لصدّق ما قلت، وربما لو قيل لي -لو كنت لا أعرفها- ستعطى «المن والسلوى» لكي تأتي إليها لفررت من هذه الدعوة فرار الحقيقة من هذا السبب الذي جعلته مبرراً لدعوتك إلى هجرتهم وتشتيتهم حفظهم الله ورحم أجدادهم الذين أسهموا مع مؤسس هذه البلاد في توحيدها وبث الأمان والنماء في ربوعها.
أيها العزيز: إن أخاك كاتب هذه السطور وكل من حولي في أهل المنطقة لا يحبون «القسوة والجفاف والجلافة» وأرجو أن تكون أنت كذلك وأنت من أهلها، وأما الشاذ فهو موجود لمن يسكنون بين الجبال، ومن يعيشون على ضفاف الأنهار.. إنني لو كنت معتقداً ذلك مثلك لما بقيت في «نجد» لحظة واحدة، فالإنسان يبحث عن الأنس والسعادة في هذه الحياة.. أرجو أنك لست جاداً والدليل إنك لا تزال تعمل وتعيش في هذه المنطقة التي تطالب بتشتيت أهلها..!، فنحن -أخي: نعشق الجمال ونحب الضحك والفرح و»السامري» وخفة الدم أيضاً، ولكيلا يكون هذا من قبل المديح للذات فما أراه وما أعرفه أن هذا طبع أهالي هذه المنطقة، أما الشاذ مرة أخرى فلا يحكم من خلاله على كل أهل المنطقة وأثق أنك -وأنت طبيب- تعالج مرضاك لا يوجد لديك سلوكيات الجفاف والجلافة وأنت من هذه المنطقة..، ألم تعايش أهلك وعشيرتك الأقربين لترى تفوقهم في فنونهم الشعبية، وفي أعمالهم الكوميدية، وانظر إلى مجالسهم كيف يعمرها الأنس والشعر والابتهاج.. إن مكونات الطبيعة ليس لها علاقة بذلك، فلا الجبل يجعل الرقيق قاسياً ولا البحر يصيّر القاسي رقيقاً، واقرأ في ديوان الشعر العربي وعندها ستجد أن أرق وأعذب، وألطف الشعر إنما نبع من شعراء هذه الـ»نجد».. من قلب سكنها الوجد واستوطنها الحنين ألم يقل شاعرهم:
نحن قوم تذيبنا الأعين النجل
غير أنا نذيب الحديدا
فلا تقاطع بين الرقة في مكانها، والحزم في موقعه فلكل مقام مقال ولكل حال باعث!.
* أتوقف عند نهاية مقالك عندما عدت إلى إلحاحك بأن أحد أسباب دعوتك إلى نقل الجيل الجديد في هذه المنطقة إلى المناطق الساحلية هو: «إبعادهم عن قرى الجمود والتقاليد القاسية» ولا أدري لماذا الكاتب مصر على هذه الصفات التي لا نراها في السواد الأعظم من أهالينا -وأكرر الشاذ موجود في كل أرض وأمة وملة.. وأستغرب أخيراً -ويبدو أن عدوى الاستغراب- أصابت قلمي من عدوى قلمه.. أستغرب عندما تطرق إلى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشيراً إلى أنها نجحت في منطقة نجد الصحراوية ولم تجد التعاون من سكان المدن الساحلية.. أستغرب هذا لأن مناطق المملكة واحدة والهيئة مؤسسة حكومية وجميع أبناء بلادنا يتعاونون مع موظفيها الذين أغلبهم رجال معتدلون والشاذ مرة عاشرة لا يحكم من خلاله على المجموع أو على مؤسسة عامة، إن الكاتب الكريم أراد أن يمتدح سكان المناطق الساحلية بعدم تعاونهم مع الهيئة لكن لعله أساء إليهم بذلك، فأنا أجزم أنهم لا يفخرون ولا يشرفهم عدم تعاونهم مع هذه المؤسسة الحكومية التي أنشأتها الدولة لتساهم في حفظ الأخلاق، وتقليص السلوكيات الأخلاقية السيئة في المجتمع.
* أما بحثك عن سبب وجدوى واعتراضك على إقامة منطقة صناعية في منطقة سدير فأنا أجيبك بأن السبب هو: تنميتها وإيجاد بيئة صناعية تسهم في تشغيل ونماء محافظاتها وقراها، وهذا النماء هو الذي سوف يسهم في تطورها واستقرارها الاقتصادي وتحقيق عوامل النماء والعيش الكريم لأهلها، وجلب المياه المحلاة لها وغيرها من عوامل التنمية، والمنجز الصناعي و«تروس المصانع» أهم عوامل جذب مقومات النمو الحضاري والاستقرار السكاني تماماً مثلما جذب «النفط» إلى بلادنا أدوات الحضارة وأقام محطات التحلية، فالموارد الجيدة هي أهم حافز لجذب كل ما يحقق الرفاه، ودونكم «المملكة» فرغم أن أغلبها صحراء إلا أن مقدراتها البترولية نتج عنها اقتصاد قوي ومصانع عملاقة وشركات «بتروكيماويات» تضاهي كبريات الشركات في العالم.. فصارت هذه الصحراء قبلة الآخرين في البحث عن الرزق فيها والعيش على أرضها، وأخيراً هل كون «سدير» منطقة تقل فيها الموارد الطبيعية يعني إهمالها وعدم تطويرها؟ ربما أن هذا السبب يدفع إلى المزيد من الاحتفاء بها، لتوفير فرص العمل لأبنائها ونماء محافظاتها وقراها، هذا النماء هو الذي سوف يسهم في استقرارها الاقتصادي وتحقيق عوامل النماء والعيش الكريم لأهلها..، إن «معادلة التنمية» لدينا متوازنة بين مختلف المناطق والمدن الصغيرة والكبيرة، انظر إلى «اليابان» هي من أقل دول العالم موارد طبيعية ومع هذا أضحت من كبريات دول العالم الصناعية.. الإنسان هو المورد الأساس، وأمر ثالث مهم وهو أن «النفط» ناضب في يوم من الأيام وأفضل استثمار له لا يكون باستهلاكه في منجزات وقتية بل بتوظيفه باستثمارات صناعية كبيرة تنهض باقتصادنا وتحقق هدف التنمية المستدامة والصناعة هي خيارنا وليس الزراعة أو غيرها.
* أما ما أختم به مقالي فهو تعليقي على إشارته إلى كثافة السكان في سوريا في غربها وشمالها الغربي.. ولكن الذي أراه أن الإخوة هناك تركوا مناطقهم الساحلية وجاؤوا إلى منطقتنا الصحراوية وهي ليست محفوفة بالمخاطركما نعتها بل نراها الآن حافلة بالأمان محفوفة بالنماء ومحتفية بالانفتاح ومعتزة بالقيم.
أنار الله لنا جميعاً دروب الكلمة حتى لا يظلم الطريق أمامنا، وعندها يتساوى أمام أبصارنا وبصائرنا: النور والديجور، ويتماثل أمامنا جوهر الكلام وحجره، وصوابه وخطؤه.
حمد بن عبد الله القاضي