هناك على ما يبدو هلع لدى بعض السوريين واللبنانيين خوفاً من سقوط نظام أبناء الأسد وأنسابهم ومحاسيبهم. الهلع هذا مصدره أن هناك وهماً متغلغلاً في ذهنية بعض أقطاب الطوائف في لبنان، وربما في سوريا أيضاً، مفاده أنّ سقوط نظام الأسد في سوريا يعني أنّ (المتطرّفين) الإسلامويين قادمون، وأنّ قدومهم يعني أنّ وجود الأقليات من غير أهل السنّة والجماعة في خطر.
الطوائف والإثنيات في بلاد الشام قديمة قدم الوجود الإنساني على هذه الأرض، ولم تكن طارئة أو جديدة، وبالتالي فإنّ (التعايش) بين هذه التشكُلات الإنسانية هو جزء من ثقافة شعوب المنطقة؛ وإنْ وجدت أصوات طائفية (إقصائية) متزمّتة، فإنها لا تعدو أن تكون عرضية، وطارئة وليست أصيلة؛ وهي بمثابة الاستثناء الذي يؤكد القاعدة ولا يلغيها. وفي تقديري أنّ أولئك الذي يدفعون بهذه المخاوف إلى السطح من أبناء الطوائف الأخرى، ويكرسونها، ويقفون في الخندق ذاته دفاعاً عن الأسد وزبانيته وظلمه وتجاوزاته الإنسانية الفظيعة، هم يقحمون طوائفهم في صراعات لا علاقة لهم بها. فالمنتفضون في سوريا لم ينتفضوا على النظام لأنّ الأسد مال مع هذه الفئة على حساب مصالح فئة أخرى، وإنما لأنه نظام فاسد، قمعي، ظالم، مستبد، متخلّف، فاشل، يتحكّم فيه مجموعة من اللصوص وقطّاع الطرق، عاثوا في بلادهم فساداً وتدميراً وتخريباً على كافة المستويات؛ ومن الخطأ الشنيع أن يقف زعماء (الطوائف) الأخرى مع هذا النظام، ويدعمونه، ويدافعون عن بقائه، وهم يعلمون يقيناً أنّ سقوطه مسألة وقت، وأنّ العالم تخلّى عنه، ويُحاصره؛ مثل هذا الموقف غير المحسوب بعناية يعني أنك سوف تُذكي الأحقاد، وتعطي الغوغاء - فيما بعد - الأدلة والذرائع للانتقام منك، على اعتبار أنك ساندت عدوّهم، ووقفت معه، وبذلت كل ما تملك من جهود لإبقائه سيفاً مسلطاً على رقابهم. مثل هذه التصرفات في تقديري هي في غاية الخطورة، ليس فقط لأنها ستفضي حتماً إلى الفشل، وإنما لأنها أيضاً ستضع الطوائف المتحالفة مع الأسد ضد شعبه في موقف لم يكونوا إطلاقاً مضطرين للوقوف فيه، وستكون انعكاساته عليهم بعد السقوط وخيمة. وأنا هنا لا أتحدث عن حزب الله؛ فهذا الحزب يتلقّى أوامره من طهران، وبالتالي فهو مغلوب على أمره، ويعمل لتحقيق مصالح إيران في لبنان والمنطقة، وإنما أتحدث عن الطوائف المسيحية والإسلامية (الوطنية) الأخرى.
ويبدو أنّ الأسد عندما فقد كل مبرّرات وجوده، لجأ إلى إذكاء التخوّفات الطائفية، جاعلاً من نظامه بمثابة الضامن الوحيد لتعايش الأقليات في سوريا وكذلك في لبنان. غير أنّ التاريخ القريب يقول: إنّ إذكاء العداء بين الطوائف والإثنيات كان لعبة نظام الأسد المفضّلة، والتعايش بين الطوائف كان دائماً ليس في مصلحة بقاء النظام؛ لذلك كان دائماً ما يلجأ إلى إشعال مثل هذه الصراعات لتصب في مصلحة بقائه؛ فالأكراد - مثلاً - وظّفهم لخدمة أغراضه، واستعملهم كورقة ضغط على تركيا، ثم باعهم، وطرد زعيمهم عبدالله أوجلان، عندما شعر بالخطر، واستنفد أغراضه منهم. والفلسطينيون كذلك استخدمهم كورقة ضغط، ووظف قضيتهم لتكون مبرراً لوجوده، بينما أن الجولان ما تزال منذ 40 سنة تحت الاحتلال الإسرائيلي ولم يحرك ساكناً. كذلك فإنّ النظام السوري هو من استخدم الصراع الطائفي في لبنان سبباً لبقائه، مناصراً هؤلاء على أولئك تارة، وأولئك على هؤلاء تارة أخرى طوال سنين احتلاله للبنان؛ ولم تبق طائفة لبنانية واحدة لم يصلها نظام الأسد ومخابراته واغتيالاته ومؤامراته.
إنني على يقين أنّ هذه التخوفات التي تدور في المنطقة، ويروّجها كثير من أساطين الطوائف غير السنية في منطقة الشام، هي ورقة نظام الأسد الأخيرة؛ أما الحقيقة فإنّ تعايش الأقليات والطوائف والإثنيات ثقافة ضاربة في أعماق المنطقة، لا يستطيع أحدٌ أن يجتثها، أياً كان شكل النظام الذي سيخلف الأسد.
إلى اللقاء.