الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فلا يخفى على المسلم ما للعلم من فضل، وما للعلماء من مكانة، فهم خلفاء الله في عباده بعد الرسل، قال تعالى: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].
وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة يُعرف بها فضلُ العلم وأجره، وشموخ أهله، ورفعة طلابه، من ذلك: قول الله تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]، قال ابن كثير: «أي: وما يفهمها ويتدبرها إلا الراسخون في العلم، المتضلعون فيه». وقوله -جل وعلا-: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]. وقوله -عز وجل-: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:11]. وقوله -جل شأنه-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر:28]. قال ابن كثير: «أي: إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال، المنعوت بالأسماء الحسنى، كلما كانت المعرفة به أتم والعلم به أكمل، كانت الخشية له أعظم وأكثر». وأما من السنة فأحاديث كثيرة، منها حديث معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يُرِدِ الله بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ». وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فيه عِلْمًا، سَهَّلَ الله له بِهِ طَرِيقًا إلى الجَنَّةِ». وحديث أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فَضْلُ الْعَالِمِ على الْعَابِدِ كَفَضْلِي على أَدْنَاكُمْ»، ثُمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ وَأَهْلَ السموات وَالأَرَضِينَ، حتى النَّمْلَةَ في جُحْرِهَا، وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ على مُعَلِّمِ الناس الخَيْرَ». وما رواه أبوالدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فيه عِلْمًا سَلَكَ اللهُ بِهِ طَرِيقًا من طُرُقِ الجَنَّةِ، وَإِنَّ المَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ له من في السموات وَمَنْ في الأرض وَالْحِيتَانُ في جَوْفِ المَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ على الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ على سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لم يُوَرِّثُوا دِينَارًا ولادِرْهَمًا، وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ».
والأحاديث في ذلك كثيرة مشهورة، وإذا عرف المسلم فضل العلم والعلماء، وعظم منزلتهم، وسمو مكانتهم، أدرك خطورة فقدهم، وخلو المجتمع منهم، فإن العلم يُنْتَقص بموت العلماء، وبذلك جاء الحديث الصحيح، فعن عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ اللهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ من الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حتى إذا لم يبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ الناس رؤوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا».
قال النووي: «هذا الحديث يبين أن المراد بقبض العلماء في الأحاديث السابقة المطلقة ليس هو محوه من صدور حفاظه، ولكن معناه أن يموت حملته، ويتخذ الناس جهالًا يحكمون بجهالاتهم، فيَضِلُّون ويُضِلُّون».
وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالأخذ من العلم قبل أن يُرفع، وذلك فيما رواه أبو الدرداء رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إلى السَّمَاءِ، ثُمَّ قال: «هذا أَوَانُ يُخْتَلَسُ الْعِلْمُ من الناس حَتَّى لا يَقْدِرُوا منه على شَيْءٍ»، فقال زِيَادُ بن لَبِيدٍ الأَنْصَارِيُّ: كَيْفَ يُخْتَلَسُ مِنَّا وقد قَرَأْنَا الْقُرْآنَ، فَوَاللَّهِ لَنَقْرَأَنَّهُ وَلَنُقْرِئَنَّهُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا، فقال: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يا زِيَادُ، إن كنت لأَعُدُّكَ من فُقَهَاءِ أَهْلِ المَدِينَةِ، هذه التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَمَاذَا تُغْنِي عَنْهُمْ؟». وفي هذا رد على من زعم أن وجود الكتب يغني عن العلماء، وأن موت العلماء ليس بتلك المصيبة؛ لأنه -كما يتوهم- يستطيع أن يبين الحكم، ويستنبط المسائل، ويرجح عن طريق الكتب. إن فقد العلماء مصيبة عظيمة، تكوي القلوب، وتسعّر الأجساد، وتقطع الأجلاد، وتفتّت الأكباد، وإذا ما خلت بلادٌ منهم، حسبتها خاوية من كل شيء، ما بها صافر ولا زافر ولا أنيس، ولا عين تطرف، ولا جفن يذرف.
إن أمة بلا علماء لهي أمة حائرة، يُخَافُ عليها الضلالُ، ويُنْتَظرُ فيها الشقاءُ والفناءُ. وأدم البكاء على أناس لا يرون للعلماء حقًا، ولا يقيمون لأقوالهم وزنًا، فكيف يطلبون السعادة والهناء، فالهم لا يزال ضجيعهم، والأسف أليفهم. إن من نعمة الله على العلماء أن يسمو ذكرهم في حياتهم ويبقى بعد مماتهم، وهاهم الأئمة الإعلام يعيشون بعد مماتهم في كل حديث ومناسبة، ويفرضون أنفسهم في كل رسالة كتاب وتحقيق، واختيار وترجيح، وتصحيح وتضعيف، وقد فاضت أرواحهم الطاهرة منذ قرون عديدة.
منَ الناسِ مَيْتٌ وهوَ حيٌّ بذكرِهِ
وحيٌّ سليمٌ وهْوَ فِي النَّاسِ مَيتُ
ومن العلماء الذين فُجِعنا بفراقهم شيخنا العلامة عبدالله بن عبدالعزيز العقيل رحمه الله تعالى، وهذه أسطر في التعريف بشيخنا، وأداء لجزء يسير من حقه علينا، وإلا فحقه كبير يحتاج إلى كتب كثيرة تتحدث عن سيرته العلمية والعملية، وعن صفاته الحميدة:
اسمه ونسبه:
هو: سماحة الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز بن عقيل بن عبدالله بن عبدالكريم آل عقيل.
مولده:
ولد -رحمه الله- سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة وألف في مدينة عنيزة، ونشأ في كنف والده عبدالعزيز العقيل -رحمه الله- الذي كان من أعيان عنيزة، ومن أدبائها وشعرائها ومفكريها.
نشأته العلمية وحياته العملية:
تلقى -رحمه الله- مبادئ العلوم على والده، ثم التحق بحلقة الشيخ عبدالعزيز الدامغ فتعلم فيها الحروف، ثم التحق بمدرسة ابن صالح أول ما فُتحت سنة ثماني وأربعين، ثم مدرسة الشيخ عبدالله القرعاوي رحمه الله، فحفظ عليه القرآن، ودرس الرحبية والألفية والآجرومية، والأربعين النووية، وغير ذلك، وفي سنة تسع وأربعين التحق بحلقات الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله، كما جلس يطلب العلم على الشيخ عبدالله بن محمد المانع.
وفي آخر سنة ثلاث وخمسين انتقل إلى منطقة جازان تنفيذًا للأمر الملكي مع عدد من الدعاة والقضاة والمرشدين، فجلس فيها ثلاث سنين، ثم ترخص أن يرجع إلى عنيزة فأُذن له، وجاء إلى عنيزة ولازم فيها دروس الشيخ عبدالرحمن بن سعدي. وفي سنة ثمان وخمسين عين على قضاء أبو عريش، وباشر عمله فيها في أوائل رمضان سنة ثمان وخمسين، فكان هو القاضي، والهيئة، والإمام، والخطيب، وقاضي الأنكحة، يوثق الطلاق والمكاتبات، ويقوم بمهام كثيرة، وكان أول راتب تقاضاه سماحته أربعين ريالاً فضة.
ثم رجع إلى عنيزة، ومكث فيها مدة، ثم ذهب إلى الرياض، والتقى فيها بالشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- رئيس المشايخ والقضاة في ذلك الوقت، وعمل معه على بعض المخطوطات من كتب التراث. وفي سنة ألف وثلاثمائة وخمس عُين على قضاء الخرج، فجلس فيها ما شاء الله، ثم استأذن في الرجوع إلى أبو عريش، ومنها عاد إلى الرياض وعين قاضيًا فيها، وفي سنة سبعين صدر الأمر الملكي بتعيينه قاضيًا في عنيزة، فذهب إليها وجلس فيها خمس سنين، استمرت علاقته خلالها بشيخه عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله، فكان يحضر درسه في الصباح قبل أن يفتح دار القاضي. ولما فُتحت دار الإفتاء برئاسة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، اختير الشيخ -رحمه الله- عضوًا فيها، وذلك في رمضان سنة ألف وثلاثمائة وخمس وسبعين، ثم عُين عضوًا في هيئة التمييز في الرياض، ثم نقل إلى الهيئة القضائية العليا، ثم عضوًا في مجلس القضاء الأعلى في الهيئة الدائمة.
أهم مؤلفاته:
الشيخ -رحمه الله- كان قليل التأليف بسبب انشغاله بالقضاء وتنقله في البلاد، ومن أهم مؤلفاته:
1- فتاوى ابن عقيل، في مجلدين.
2- كشكول ابن عقيل، وهو مجموعة من الفوائد التي قيدها -رحمه الله- أثناء قراءاته.
3- الشيخ عبدالرحمن السعدي كما عرفته.
4- تحفة القافلة في حكم الصلاة على الراحلة.
5- إحياء التراث فيما جاء في عدد السبع والثلاث.
6- الأجوبة النافحة على المسائل الواضحة.
7- فتح الجليل، وأصله أوراق كتبها الشيخ رحمه الله عن حياته وسيرته الذاتية.
وقد جُمعت مؤلفات الشيخ رحمه الله، وستطبع -إن شاء الله- في مجموعة واحدة ليستفيد منها الناس.
أهم صفاته:
كان -رحمه الله- يفتح باب منزله للجميع، من بعد صلاة الفجر إلى ما بعد صلاة العشاء، يستقبل طلبة العلم ويلقي عليهم الدروس، وأثناء ذلك يقوم بواجب الضيافة تجاههم، وكثيرًا ما كان يجمعهم على العشاء في منزله، وكانت مائدته تشهد على كرمه ومحبته للناس وفرحه بقدومهم.
وكان -رحمه الله- دائم الزيارة لمشايخه، ودائم الدعوة لهم، وإذا تأخر بعض طلابه عليه اتصل بهم يسأل عنهم، ويحثهم على الحضور، وكان هذا من أكثر الدوافع لدى طلابه للحرص على حضور مجالسه.
ودأب -رحمه الله- على صيام رمضان والأيام البيض من كل شهر في مكة، وكان يحج في كل عام، ويداوم على الصلوات في المسجد الحرام، كما كان كثير الإنفاق في وجوه الخير، مثل بناء المساجد، ودور تحفيظ القرآن الكريم، وغير ذلك من المشاريع الخيرية.
مرضه ووفاته:
تعرض -رحمه الله- لوعكة صحية شديدة قبل سنة تقريبًا، دخل على إثرها المستشفى، جلس فيها فترة ثم خرج منها متعبًا مرهقًا، ومع راحته في البيت تحسنت صحته، وأقبل على دروسه، إلا أنه سقط في بيته أثناء وضوئه، فأصيب بجلطة، ودخل في غيبوبة، وانتكست حاله ودخل العناية المركزة، وجلس فيها طويلاً إلى أن توفي في يوم الثلاثاء الثامن من شهر شوال، في الساعة الثانية وعشر دقائق ظهرًا، وصُلي عليه في جامع الملك خالد في أم الحمام، ودفن في مقبرة أم الحمام، وغص المسجد وساحته والشوارع المحيطة به والمقبرة بمشيعيه من محبيه وطلبة العلم.غفر الله لشيخنا، وتجاوز عن سيئاته، ورأف به، وأكرم منقلبه ومأواه ومثواه، ورضي عنه وأرضاه، وطيب تربته وثراه، وعفا عنه وزكاه، ولقاه من رحمته أوسعها، ومن مرضاته أفضلها، ومن مغفرتها أكملها، ومن كرامته أجلها، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
د. طارق بن محمد بن عبدالله الخويطر