Tuesday  23/08/2011/2011 Issue 14208

الثلاثاء 23 رمضان 1432  العدد  14208

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الثقافية

      

إضاءة

لم أحتر في حديثي كما احترت وأنا أرغب الكتابة عن د.غازي القصيبي -رحمه الله-، لقد تساءلت في نفسي: عماذا أكتب وماذا أدع، فبعض الرجال تحتار عندما تريد أن تتحدث عنه لوفرة جوانب حياته وعطائه - كما يقول الأديب أحمد حسن الزيات.

من هنا سكنتني الحيرة لكن سأقصر حديثي عن (الجانب الإنساني في حياة وعطاء د. القصيبي بوصفه بتقديري هو (مفتاح شخصية الراحل)، وبوصف هذا الجانب لم يكن الراحل يحب التطرق إليه حديثاً أو تأليفاً أو إعلاناً. وقبل ذلك لا بد أن أقف وقفات سريعة عند جوانبه الأخرى الإدارية والثقافية من خلال ملامحها الإنسانية حيث لا أستطيع أن أغفل هذه الجوانب ولا أتناولها ثم آتي إلى موضوع ورقتي هذه الليلة.

لماذا لم يظهر الجانب الإنساني في حياته؟

الجانب الإنساني هو أهم سمات شخصيته.. بل هو مفتاحها.. غازي القصيبي (إنسان) بكل دلالات هذه المفردة وحمولاتها، إنه رغم كل ما أحاط به من شهرة وتولى الكثير من المناصب وصعد المنابر متحدثاً أو محاضراً أو حاصداً للجوائز بقي (إنساناً) لم يتبدل أو يتغير.. لم تشغله كل هذه الأضواء والمناصب والألقاب عن رسالته في الحياة بوصفه (إنساناً).. هذا الجانب لا يُعرف عنه كثيراً كما عرف كونه وزيراً ومثقفاً وسفيراً إلخ.. والسبب في غياب أو تغييب هذا الجانب يرجع إلى د. غازي -رحمه الله- نفسه فهو لا يحب أن يظهر أو يذاع أو ينشر عنه. يروي د. حمد الماجد -مدير المركز الإسلامي ببريطانيا- فيما نشره بمقاله (شاهد على عصر القصيبي) الشرق الأوسط 13 رمضان 1431هـ بقول الكاتب: (رن جرس هاتف مكتبي في المركز الإسلامي بلندن وإذا هو سفيرنا في لندن حينها الدكتور غازي القصيبي، قال لي:

(للتو جئت من الكويت بعد أن كرموني هناك ومنحوني جائزة تقديرية ومبلغ ثلاثمائة ألف ريال، وأريد أن أتبرع به لصالح المكتبة التابعة للمركز، فقط أرجوك (يبو معتصم) لا تخلي المبلغ يضيع في متاهة نفقات المركز الإدارية، أريده للمكتبة والمكتبة فقط، ولك بعدها أن تتصرف في شراء الكتب التي تريد). شكرته ودعوت الله أن يتقبل منه. طلب مني حطاب العنزي، المدير السابق لمكتب وكالة الأنباء السعودية، أن أستأذن القصيبي في نشر الخبر، فوافقت، وفي أحد لقاءاتي الخاصة بغازي نقلت له رغبة الوكالة في نشر الخبر، فحانت منه التفاتة سريعة إلي وكأنما فاجأه العرض، وقال لي: (يا حمد، يفرح الواحد منا أنه وُفّق لمثل هذه الصدقة، ثم تريدني أن أحرق ثوابها بوهج الإعلام؟ انس الموضوع). فنسيناه، لكنه راح عند من لا يضل ولا ينسى).

عجيب أمر إخفائه لأعماله الخيرية فهو -رحمه الله- لا يكتفي بعدم النشر أو الإشارة إلى شيء من ذلك بل يوصي من يصله عمل خيري منه ألا ينشر أو يشير إلى ذلك، يروي الشيخ عبدالمحسن النعيم إمام جامع المزروعية بالأحساء: أنه كتب له يطلب منه الإسهام بترميم الجامع فبعث إليه ثلاثين ألف ريال مع الإشارة إلى عدم نشر شيء من ذلك -رحمه الله-.

غازي القصيبي هُويته (الإنسان) وقد تماهي (الحسّ الإنساني والخيري) في كافة أعماله ومناصبه ومراكزه وفي تفاصيل حياته كلها.

د. غازي والعمل الإداري المؤطر بإنسانيته

لعل هذا الجانب هو الأبرز في مسيرة د. غازي القصيبي سواء عميداً، أو مديراً، أو وزيراً، أو سفيراً، ليس غريباً توليه العديد من المناصب ولكن المدهش هو نجاحه في كل عمل تقلده.. وهذا إحدى مواهبه ومهاراته التي منحها الله إياه.

ولعل (حبه لهذا الوطن) هو الذي كان وراء ما حققه من نجاحات بعد توفيق الله وقد صدق عندما قال:

يا بلاداً نذرت العمر زهرته

لعزها دمتِ إني حان إبحاري

حقاً.. إن حبه لوطنه هو الذي جعله ينجح ويبدع ويتفوق في أي عمل تولاه بدءاً من ميادين الصناعة والكهرباء ومروراً بالصحة والمستشفيات ثم المياه، وأخيراً العمل والسعودة.

منهجه

لقد كان من منهجه -رحمه الله- أنه عندما يأتي إلى أي عمل فإن أول ما يحارب (البيروقراطية) فيعطي الصلاحيات لمن تحته، ويكون دوره الإشراف والتخطيط والمتابعة، وكان أسلوبه بالمتابعة مبتكراً فهو يطلب تزويده بصورة من أي خطاب يصدر ليكون لديه تصور عما يتم، ولكي يحاسب أي مسؤول عنده فلا يصدر أي قرار إلا بعد تأن لأنه يعرف أن الوزير سيطلع عليه.

جانب آخر فهو إلى جانب ما عرف به -رحمه الله- من حزم وقوة فهو حريص على إعطاء الحوافز لمن يعملون معه سواء كانت مادية أو معنوية، وهذا يبث (الحراك) في الجهة التي يرأسها.. وأروي هنا قصة (إدارية) حصلت لي معه شخصياً، وهي تجمع بين حزمه في احتفاظه بالقدرات لديه، وفي ذات الوقت حفزهم وتشجيعهم فضلاً عن أن في هذه الحكاية جانباً طريفاً وهو أمر اشتهر به سواء في أحاديثه أو بعض رواياته رغم الجدية التي هي نهج حياته وسلوكه، هذه الواقعة عندما كان وزيراً للصحة، إذ طلب مني صديق وطبيب فاضل كان يعمل في مجمع الرياض الطبي الشفاعة لدى معاليه لينتقل إلى وزارة الدفاع (برنامج المستشفي العسكري) من أجل إتاحة فرصة الابتعاث المتاحة هناك، فكتبت لمعاليه رسالة شفاعة شخصية وبالطبع لا بد أن أثني على هذا الطبيب حيث أشرت إلى أخلاقه وقدرته الإدارية إلخ.. وبعثت الخطاب، وبعد يومين جاءني الرد من معاليه شارحاً على خطابي: (أخي: ما دام د. فلان بهذه الصفات فكيف تريدني أن أوافق على نقله؟). فأفدت الصديق الطبيب بشرح معاليه، وكان رده: (ليتك يا حمد لم تشفع لي) وحتى الآن كلما التقيته ذكرني بهذه الشفاعة الفاشلة لكن د. غازي -رحمه الله- عوض هذا الطبيب بمنصب ورقاه إلى مرتبة أعلى.

مبادرة الزيارات المفاجئة والقرارات الفورية

أتوقف قبل أن انهي حديثي عن جانبه الإداري لأشير إلى تجربته المتميزة في وزارة الصحة، وهو لم يمض فيها سوى قرابة ثلاث سنوات لكن أنجز فيها بتوفيق الله ودعم الدولة منجزات سواء في بناء المستشفيات، أو تطوير الخدمات الصحية، أو محاربة التسيب بالمستشفيات مما كان له مردوده الإيجابي على المرضى، وكان من مبادراته (الزيارات المفاجئة) التي كان لها أثر كبير في تحسين الخدمات علاجاً وتنويماً، وأذكر له موقفاً رواه لي سكرتيره بوزارة الصحة، فقد زار د. غازي المستشفى العام في إحدى المحافظات وعندما وصل إلى المستشفى تفاجأ مدير المستشفى بدخول الوزير عليه، وعندما جلس لديه طلب أن يذهب إلى دورة المياه الملحقة بمكتب المدير.. ثم عاد وبدأ الجولة، وأول ما زار الحمام الخاص بغرفة أول مريض فوجده على وضع مزر صيانة ونظافة وإهمالاً، وكان للتو رأى حمام المدير، وإذا هو غاية النظافة والصيانة ثم استمر بالجولة، وعندما عاد من الجولة بدأ حديثه مع المدير وبدأ بالمقارنة بين الحمامين وقسا في حديثه مع المدير.. وعندما عاد إلى مكتبه -رحمه الله- كان أول قرار تغيير هذا المدير ونقله إلى عمل آخر.

أما في وزارة المياه.. فقد يعرف التحدي الذي سيواجهه عند تولي وزارة مياه في بلاد لا أنهار تجري فيها ولا أمطار. ومطلوب أن توفر وزارة المياه لملايين المواطنين والمقيمين الذي يزدادون تماماً عاماً بعد عام، ولهذا كان همه خيار الترشيد، ومحاربة ثقافة الإسراف.. وأعلن قولته الشهيرة: (إننا بوصفنا بلداً شحيح المياه أمطاراً وأنهاراً، فإنه يجب أن تكون لدينا حالة طوارئ دائمة لإبقاء شيء من المياه للأجيال القادمة).

وأنهي حديثي عن تجربته بوزارة المياه بموقف طريف فقد كتبت مقالاً عندما جاء من لندن التي خرج منها خائفاً يترقب وذلك بعد صدور الأمر الملكي بتعيينه وزيراً للمياه، وقلت في المقال: لا تحزن على المياه وتوفرها.. فصاحبك الشاعر أعطاك الحل، فلن تلجأ إلى حفر آبار أو إقامة محطات تحلية.. حيث يقول أحد أصحابك الشعراء مخاطباً وواصفاً حبيبته:

(ولو تفلت في البحر والبحر مالح

لأضحى أجاج البحر من رقها حلو)

و(خوش) فهذه الحبيبة محطة تحلية تمشي.. وأذكر -رحمه الله- أنه هاتفني في ذات اليوم الذي نشر فيه المقال شاكراً وسائلاً بسخريته وهو يضحك -رحمه الله-: (هات هذه الحبيبة -يا حمد- فإن كانت من الصحراء نوظفها أو من أوروبا فنتعاقد معها).

محطة العمل

بقي في الجانب الإداري محطة العمل.. وهذه فعلاً أصعب محطات العمل التي مرّ بها وهو -واقعاً- حقق فيها الكثير من النجاح، لكن لم يحقق فيها كل ما يطمح إليه وتطمح إليه القيادة في تحقيق الهدف الأسمى بتوظيف الشباب السعودي والقضاء على البطالة وهو معذور فهذا الهدف مرتبط برجال الأعمال الذي يريد أكثرهم عمالة بأقل السعر دون النظر إلى واجبهم الوطني نحو شباب وطنهم وبأن ما نالهم من خير هو من خير هذا الوطن.

لقد بذل واجتهد وزار وحث وتحدث بل وعمل (نادلاً) لتحقيق هذا الهدف السامي ولكن لم تأت رياح الإنجاز كما تريد سفن رجال الأعمال.

لكن حسبه -رحمه الله- أن رسخ ثقافة خطورة البطالة وقيمة العمل، وجعل المجتمع كله يحس بضرورة توظيف الشباب السعودي، لقد تعب من هذا العمل بل وأرهقه ليس جسداً بل ونفساً، ولا أنسى هذه العبارة التي تشي بأنه يرى أن العمل مسؤولية وهمّ وتكليف والتي ختم بها رسالة حميمية بعثها إلي عام 1429هـ وكان يشكو فيها من تحديات هذه الوزارة وعدم تجاوب بعض الأعمال.. لقد قال في نهاية هذه الرسالة عبارة تنبئ عن ألم شديد يسكن وديان نفسي يقول -رحمه الله-: (إنني أحسّ أيها الصديق أن كل يوم يمضي علي في هذا العمل يستنزف حياتي وسعادتي) وفي آخرها قال: (إني أدعو دائماً بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أشكو إليك ضعفي وقلة حيلتي وهواني على الناس».

رحمه الله كان مخلصاً ومحباً لهذا الوطن وأبنائه حد الشجن، وكان مترجماً ذلك رؤية لا رواية إلى درجة إهداء سنوات العمر.

هذا الرجل الذي طالما سمعنا وقرأنا عن قراراته القوية عندما يرى خطأ أو يصدر قراراً من أجل مصلحة العمل والوطن. لكن هذا الجانب الإداري الحازم يقابله جانبا إداريا تؤطره الرحمة، بل ويغلب عليه الضعف أحياناً.. وبخاصة تجاه فئة من الناس كالمرضى والمحتاجين أو من هم أقل منه مركزاً إدارياً أو مالياً. روى لي معالي الصديق د. عبد الواحد الحميد - نائبه بوزارة العمل مواقف مؤثرة تتخضّب بالوهج الإنساني سواء مع المراجعين، أو مع الموظفين وصغارهم تحديداً، فمع المراجعين فإن هذا الرجل القوي يضعف عندما يأتيه رجل كبير في السن أو أي شخص تبدو عليه سيماء الضعف فتجده يوافق على ما يطلبه من تأشيرة أو غيرها دون أن يتأكد من حاجة هذا الشخص لما طلبه فهو يغلب جانب الصدق في طالب الخدمة وجانب الرحمة في قلبه كمسؤول.

أما مع الموظفين فهو رغم مسؤولياته يتفقد أحوالهم وأحوال أسرهم ويعايد كل موظف بكرت عليه توقيعه.. بل إنه يرى أن الجانب الإنساني في حياة من يعمل لديه فوق النظام أو بالأحرى يطوع مرونة النظام لمراعاة المنحى الإنساني. يقول د. عبد الواحد الحميد: إنه وضع شرطاً في معايير النقل ألزم به اللجنة المسؤولة بالوزارة، فقد وجه اللجنة بأنه إذا كان للموظف ظروف خاصة من مرضية بالنسبة لـه أو لواحد من والديه أو أي ظرف إنساني فإنه لا يتم نقله من موقعه.. ورغم أن ذلك يخالف بعض اللوائح لكنه يرى أن الرحمة فوق النظام.

رحمه الله كما رحم المحتاجين للرحمة.

الجانب الثقافي وخطابه التسامحي

لن أطيل في هذا الجانب وإنما سأمر عليه مروراً سريعاً، فقد تحدث الكثير من الكتاب والنقاد عن منجزه الثقافي خلال حياته وبعد رحيله - رحمه الله - والغريب أنه رغم نجاحه وتفانيه في عمله الرسمي إلا أنه أعطى الميدان الثقافي ما لم يعطه آلاف المتفرغين، فقد أصدر (70) كتاباً خلال سبعين عاماً..

وأنا أرجع منجزه الثقافي أو الإداري أو الإنساني إلى قدرته على إدارة الوقت بشكل عجيب، ونأيه عن المجاملات التي تضيع وقته.. حيث أراد أن تضوع ثواني عمره بعبق العطاء وعطر الإنجاز.. أذكر أنه ظل 8 سنوات يكتب زاويته (صوت الخليج) (بالمجلة العربية) ولا أتذكر أنني أو أحد الزملاء احتجنا لمتابعته، فقد كانت تصل إلينا بانتظام حتى وهو خارج المملكة سفيراً في البحرين ولندن رغم أن هذه الزاوية لم تكن كلاماً إنشائياً بل هي تحتاج إلى قراءة أحد الكتب التي صدرت في الخليج وتقديم قراءة بل دراسة متميزة بأسلوبها وطرحها في هذه الزاوية.

وفي فضائه الثقافي تجد الإنسان وتعزيز قيم المحبة، والسلام والتسامح والرحمة هي المفردات الأبرز في خطابه الثقافي سواء كان شعراً أو مقالاً أو سرداً، أليس هو القائل:

من جرّب الحب لم يقدر على حسد

من عانق الحب لم يحقد على أحد

وأمر آخر قد لا يعرفه الكثيرون حتى في الوسط الثقافي ذلك أنه كان رحمه الله يقف مع عدد من الأدباء سواء السعوديين أو العرب عندما تمرّ بهم ظروف يحتاجون فيها إليه.

الهاجس الإنساني عندما تقلّد وزارة الصحة

أذكر عندما تولى - رحمه الله - وزارة الصحة قلت في مقال لي: (إن قائل هذا البيت:

وإن سهرت مقلة في الظلام

رأيت المروءة أن اسهرا

هو من تنطبق عليه مواصفات من سيكون وزيراً للصحة فهذا العمل يتعامل مع المرضى ومع الناس في حالات ضعفهم ومرضهم..). وفي وزارة الصحة تحديداً أعطى غازي كل وقته وجهده وعمل على أن يصبغ هذا العمل بالمحتوى الإنساني في كل عمل أنجزه أو قرار أصدره، لقد أخذه هذا العمل عن بيته وأسرته وأطفاله.. وقد جسد ذلك بقصيدته التي تفيض إنسانية ورقة تلك التي أهداها إلى ابنته (يارا) عندما كانت تسألـه بعتاب طفولي: بأنها لا تراه فكان جوابه بهذه الأبيات الأخاذة التي تتوشح بالتضحية:

أبي ! ألا تصحبنا ؟ إنني

أود أن تصحبنا... يا أبي !

وانطلقت من فمها آهـة

حطّت على الجرح.. ولم تذهب

وأومضت في عينها دمعة

مالت على الخدّ ولم تُسكب

أهكذا تهجرنا يا أبي

يا أجمل الحلوات.. يا فرحتي

يا نشوتي الخضراء.. يا كوكبي

أبوك في المكتب لمَّا يزل

يهفو إلى الطيِّب والأطيب

يصنع حلما، خيْر أحلامه

أن يسعد الأطفال في الملعب

من أجل يارا ورفيقاتها

أُولع بالشغل... فلا تغضبي

لم يكن عمله بوزارة الصحة مقتصراً على إنجاز المشروعات وخلافها بل حفل كثيراً بالجانب الإنساني للمرضى، فطرح فكرة لجان (أصدقاء المرضى) لتقوم بأدوارها الإنسانية لهؤلاء المرضى كواحدة من مؤسسات المجتمع المدني. كما وضع (كروتاً) موقعة باسمه مع دعاء بالشفاء وتُعطى لكل مريض يدخل أحد المستشفيات بالمملكة وأمر بوضع الآية الكريمة: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [سورة الشعراء آية 80 ]. بالمؤسسات الصحية لتزرع الإيمان والطمأنينة في نفوس المرضى وغيرها من اللمسات الإنسانية التي نشرت عبق الارتياح في وجدانات المرضى وأسهمت في تخفيف أوجاعهم.

إنسانيته وتأسيس

جمعية الأطفال المعاقين

آتي إلى جانب مهم من أعماله الإنسانية الباقية، ذلك هو منجز إنساني كان - رحمه الله - وراءه فكرة وتأسيساً.. ذلكم هو (جمعية الأطفال المعوقين) التي بدأت بالرياض وانتشرت فروعها وأغصانها المورقة بالمملكة ترعى وتحنو على هذه الفئات الغالية وسار على نهجه آخرون في مناطق المملكة في اقتفاء جميل لهذا العمل. لقد جعـل المجتمع يقف مـع الأجهـزة الحكــوميــة بالاحتفـــــاء والـرعـــايــــة لهــذه الفئــات عـلاجـاً وتدريـباً وترفيهـاً ودمجــاً بالمجتمــــع، وها هم (ذوو القـــــدرات الخـــــاصة) ينعمـــــون بخدمات ورعاية مثل هذه المراكز سواء التي أنشأتها الدولة أو التي أقامتها جمعية الأطفال المعاقين وغيرها من الجمعيات المماثلة بالمملكة.

شمولية غيمته الإنسانية

وقصة ترك مكتبه لهدف إنساني

كان اهتمام د. غازي بالآخرين لا يتجه فقط إلى المرضى أو المعاقين فقط بل كانت بوصلته وأمطار غيمته الإنسانية تتوجه نحو كل من يحتاج إلى لمسة إنسانية سواء بالكلمة أو الزيارة أو المادة.. روى لي مدير مكتبه الذي رافقه على مدى 30 عاماً أ. هزاع العاصمي عديداً من المواقف الإنسانية للراحل - رحمه الله - ومنها هذا الموقف المؤثر؛ يقول أ. هزاع عندما انتقل من وزارة الصناعة إلى وزارة الصحة أصيب أحد موظفي وزارة الصناعة بفشل كلوي وتم تنويمه بمستشفى الشميسي بالرياض وزار شقيق هذا الزميل د. غازي ونقل لـه أن أخاه رفض (الغسيل الكلوي) وأن الأطباء يقولون: إذا لم يغسل كليته فسوف يصاب (بتسمم الدم) الذي قد يقضي على حياته خلال مدة وجيزة، فما كان من د. غازي إلا أن ترك مكتبه واجتماعاً كان لديه وذهب مع شقيق هذا الزميل وأنا معهم إلى مستشفى الشميسي ودخل على هذا المريض بغرفته، وواساه ودعا لـه ثم ظل وقتاً طويلاً يقنعه بغسل الكلى مشيراً إلى أن الله أمر بالعلاج وأن الأطباء أدرى وعليه أن يستجيب لطلبهم، ولم يذهب إلا بعد أن اقتنع. وفعلاً بدأ من ذلك اليوم بغسل الكلى، وظل يسأل عنه ويزوره وعندما تبرع لـه أحد أقاربه بكلية سعد وسعى إلى زرعها بأقرب فرصة.. بل ظل يرسل مصروفاً شهرياً إلى أسرته بسبب مرضه وعجزه عن العمل). أرأيتم هذا الإنسان كيف يبذل من وقته وجهده ومالـه بل يقدمها على مسؤولياته وصدق مرة ثانية عندما قال:

وإن سهرت مقلة في الظلام

رأيت المروءة أن اسهرا

إن الجميل أن هذا الحس الإنساني لا يدور في فضاءات معارفه أو دوائر زملائه أو أصدقائه فقط بل هو مطر تنسكب قطراته كما قال في بيته الشعري على كل مقلة سهرت في الظلام.. ولأني رأيت ألا يكون حديثي عن هذا الجانب إنشائياً فقط فإني أحرص على أن أعضده بالوقائع والحقائق.. وأروي هنا واقعة إنسانية عايشتها شخصياً: (لقد كتبت لـه ذات مرة عندما كان وزيراً للصناعة عن امرأة هجرها زوجها بعد ارتباطه بأخرى وحرمها من رؤية أولادها وأحدهما معاق، فضلاً عن عدم إنفاقه عليها وعلى أطفاله حتى أصبحت لا تستطيع تأمين الحليب لهم، وما أن وصلته رسالتي وإذا به يتصل بي ليستوفي بعض المعلومات، وبعدها لم يكتف بمساعدة مالية قدمها بل تبنى قضية (معاناتها) بسبب عدم رؤية أولادها فبذل جهده للوصول إلى زوجها القاسي - بكل سرية - ووسط شخصاً يعرف هذا الزوج.. ولما لم تنجح هذه الوسائل سأل عن منزله وذهب إليه شخصياً في إحدى حارات الرياض الشعبية ليبين لـه خطأ تصرفه، ويقنعه بجعل الأبناء يرون أمهم..

وتأثر هذا الزوج الذي ظلم امرأته الأولى بهذا الموقف واستجاب لنداء ورغبة وزيارة (الإنسان) غازي القصيبي - رحمه الله -.

د. غازي في التعامل الإنساني مع الآخرين

يقف قارب رحلتي في فضاء الراحل الإنساني في محطة تعامله مع الآخرين، فقد كان تعاملاً رقيقاً راقياً وبخاصة مع منهم أقل منه أو من يعملون معه سواء في الجهة التي يرأسها أو في منزله، تصوروا أن عاملاً استمر يعمل معه أربعين عاماً.. ولو لم يكن د. غازي يمتلك التعامل المشرق والجميل ما استمر معه مثل هذا العامل طوال هذه السنين وحتى رحيله - رحمه الله -.. لقد كان يحفل بهموم من يعملون معه، وبشؤونهم الشخصية تفاعلاً ومساعدة لهم من ناحية، ولأنه يعرف - رحمه الله - أثر ذلك على عملهم وإنجازهم..

روى لي أحد المسؤولين لديه أنه لاحظ أن أحد الموظفين قل إنتاجه في الأشهر الأخيرة فما كان من د. غازي إلا أن طلب هذا الموظف إلى مكتبه وجلس يتحدث إليه، ويسألـه عن سبب ضعف نشاطه وإنجازه في الأشهر الأخيرة فلم يستطع الموظف أن يجيب بل أجابت دموعه فتأثر د. غازي كثيراً. ولما هدأ الموظف طلب منه أن يتحدث عن ظروفه فكشف لـه الموظف عن مرض زوجته الصعب وعدم توفر مبلغ لديه لاستكمال علاجها، فما كان من د. غازي إلا أن خفف من ألم هذا الموظف مطمئناً لـه بأن مع العسر يسراً وأن الله هو الشافي أولاً، وطمأنه بأنه سيسعى باستكمال علاج زوجته وفعلاً بعد أيام جاء الأمر بعلاجها في الخارج.

ولم يكتف بهذا بل أعطاه إعانة مالية، فمسح هذا الموقف شجن هذا الموظف.. وكتب الله لزوجته الشفاء وعاد إلى عطائه ونشاطه، ومرة ثالثة ورابعة أعيد هوية غازي الإنسانية:

وإن سهرت مقلة في الظلام

رأيت المروءة أن اسهرا

رحمه الله.

المستخدم الذي دعاه واحتفى به كوزير

موقف آخر يبلور (الحس الإنساني) الذي لا يفارقه مهما نأى وابتعد وبخاصة مع بسطاء الناس..

إن الكثير منا عندما ينتقل إلى عمل آخر ينسى مع الأسف زملاءه.. بل والجهة التي عمل بها لكن غازي القصيبي نمط آخر من الناس.. فهو يحفظ الوفاء للآخرين ويحتفظ بالتواصل معهم سواء كانوا وزراء أو خفراء، أغنياء أو فقراء، وكلاء أو مستخدمين.. وهذه القصة التي سأحكيها ترسّخ هذا الجانب، تلك حكايته مع (مستخدم) في مكتبه بوزارة الصناعة والكهرباء.. وقد روى هذه القصة الشيخ الدكتور. عبد الوهاب الطريري، بوصف هذا المستخدم قريباً لـه واسمه جار الله.. يقول د. عبد الوهاب كما نشر في صحيفة الحياة بتاريخ 11-9-1431هـ: (إن د- غازي بعد أن ترك الوزارة وسافر إلى لندن فوجئ قريبي جارالله المستخدم بأن بطاقة دعوة تجيئه من معالي د. غازي القصيبي يدعوه فيها لحضور زواج ابنته (يارا) وعندما حضر للزواج رحب به د. غازي وكأنه أحد زملائه الوزراء.. إنه عمل بسيط لكن كم لـه من دلالـة على سجايا الراحل وإنسانيته رحمه الله). جانب آخر يجيء في فضاء عالمه الإنساني ألا وهو شيمة التسامح فرغم ما تعرض له من نقد قاس سواء في عمله أو منجزه الثقافي بحق وبغير حق (وهذا هو قدر العظماء)، لم يكن - رحمه الله - يحمل حقداً أو حسداً.. لقد كان صاحب رسالة وقلباً ثرياً. أذكر أن أحد الكتاب نقد إحدى قصائده نقداً قاسياً.. ولم يحمل عليه بل عندما أحتاج إليه في شأن يهمه وقف معه وساعده وقد كان يردد دائماً: (من حق النقاد والقراء أن يقولوا ما يشاؤون).

الموقف الإنساني الذي جعل القصيبي يبكى

عادة الإنسان رجلاً أو امرأة قد يبكي لأمر يخصه، أو عزيز يفتقده.. وهذه رحمة وإنسانية لكن أن يبكي الإنسان من أجل شأن عام ومن أجل آخرين أو ضعفاء أو مرضى فتلك هي قمة الإنسانية والرحمة. د. غازي القصيبي واحد من الذين يبكون من أجل غيرهم رغم ما عهد عنه وفيه من قوة وحزم.. روى لي الأستاذ - فهيد الشريف أحد زملائه وأصدقائه المقربين أن رافق د. غازي عندما كان مديراً عاماً للشؤون الإدارية والمالية بوزارة الصحة.. رافقه لزيارة مستشفى الولادة والأطفال بالمدينة المنورة وعندما بدأ الجولة وجد غرف المريضات وغرف الأطفال بوضع مزر: نظافة وصيانة وخدمات وظل يستمع إلى شكاوى المريضات وبعضهن كن يبكين فما كان من د. غازي - رحمه الله - إلا أن انسكبت الدموع على وجهه ولم يملك أن يرد عليهن.. فجلس في إحدى غرف المستشفى واتخذ على الفور: قرارات إدارية عاجلة تتعلق ببعض المسؤولين بالمستشفى ثم طلب سرعة انتقال المريضات والأطفال إلى مستشفى آخر فأجابه مسؤولوا الصحة بالمدينة بأن هناك أرضاً انتهت مخططاتها وسوف يبنى عليها مستشفى جديد فأجاب هل تريدوني أن أغادر المستشفى ولم أطمئن على حل سريع لهذا الوضع المزري وأضاف كيف سأرتاح وأنا أتخيل وضعهم ثم سأل عن أي مبنى يمكن أن ينقل إليه المرضى، فذكر لـه أحد الحضور أن هناك مبنى مناسباً تابعاً لوزارة الحج والأوقاف والوزارة لا تستخدمه حالياً فما كان منه إلا أن طلب على الفور معالي الشيخ عبدالوهاب عبد الواسع وزير الحج والأوقاف السابق - رحمه الله - وبعد السلام عليه قال: إنني سأطلب منك طلباً وأرجو ألا تردني فهو يهمني كثيراً ثم طلب منه المبنى التابع لوزارة الحج ليكون مستشفى مؤقتاً للنساء والأطفال بالمدينة حتى ينتهي المبنى الجديد ووافق الشيخ عبدالوهاب وعندها أحسسنا بارتياح كبير بدا على وجه د- غازي وكأن جبلاً من هم انزاح عن قلبه وظل - رحمه الله - يتابع انتقال المريضات والأطفال يومياً من مكتبه بالرياض ولم تمض أيام حتى تم نقلهم جميعاً.

ورحمك الله عندما قلت:

وإن سهرت مقلة في الظلام

رأيت المروءة أن اسهرا

وبعد:

ختاماً أيها الحبيب الراحل غازي: أودع الحديث عنك ببيتك الذي رثيت به أحد أحبابك:

لو يرد (الزؤام) لانتصب الحب

سياجاً فما استطاع الزؤام

رحم الله (الإنسان) د. غازي القصيبي رحمة واسعة، وجعل ما أصابه من مرض تكفيراً لسيئاته ورفعا لدرجاته..

لقد خدم دينه وقيادته ووطنه وأبناء وطنه بروح المؤمن، وتفاني المواطن، ورؤية المفكر، ورقة الإنسان، جمعنا الله به جميعاً في جنة المأوى.

و.. أيها الحبيب الراحل غازي: طبت حياً وميتاً.

* () محاضرة في نادي المدينة الأدبي

عضو مجلس الشورى

hamad.alkadi@hotmail.com
فاكس: 4565576
 

في الذكرى الأولى لرحيل الاستثناء
د. غازي القصيبي .. قراءة في جوانبه الإنسانية
حمد بن عبد الله القاضي

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفجوال الجزيرةالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة