يجد من يطّلع على ديوان حورية البحر للشاعر العُماني الجميل ناصر بن علي البلال مظاهر عديدة من آليات التناص، وقبل أن نشرع في التعرف على هذه الآليات وأثرها في تكوين النص وإنتاج الدلالة نحاول أن نوضح ما نقصد بالتناص، وهو مصطلح حديث ظهر مع ظهور النظريات النقدية الحديثة،
ونقصد به «تداخل نصوص أدبية مختارة قديمة أو حديثة شعرًا أو نثرًا مع نص القصيدة الأصلي بحيث تكون منسجمة وموظفة ودالة قدر الإمكان على الفكرة التي يطرحها الشاعر» (3).
وقد عُرِفَ التناص قديمًا عند النقّاد العرب بمفاهيم متعددة من مثل: «وقع الحافر على الحافر» و»السرقات الأدبية» (4)، أمّا التناص في النقد المعاصر فينظر إليه بقدر كبير من الاهتمام، ويُعدّ نوعًا من التثاقف والتعالق بين النصوص؛ فهو يثري العمل الأدبي لا يضعفه.
ولعلّ من أبرز آليات التناص في ديوان «حورية البحر»: الهوامش النصية، وهي أن «يورد المبدع في عمله الإبداعي المتن ويذيله بهوامش إحالية ومرجعية، وغالبًا ما توضع هذه الهوامش في أسفل النص أو في آخر العمل» (5)، ونرى أنّ الشاعر وضع في هامش الصفحة الثانية والعشرين إشارةً تشير إلى أنّ «دير قانون» في النص الشعري أعلاه هي: «تضمين من الشاعر ابن منير الطرابلسي»، ويبدو أنّ الشاعر حينما أشار تلك الإشارة في الحاشية، أو بمعنى آخر حينما حاول توثيق النص المقتبس ربما كان يدفعه إلى ذلك الخوف من أن يُتَّهم بالسرقة. ولكننا نقول: إنّ نظرية التناص تحمي الشاعر من هذا الاتهام، فلا مسوغ لتوثيق الشاعر في الموضع السابق، ولاسيّما أنّ «دير قانون» ليس تركيبًا مجازيًا أبدعه الشاعر الأول، وبذلك قد حاز ملكيته، فضلاً عن أنّ هذا التوثيق قد حرم القارئ متعةَ التذوق والمشاركة في ملء فجوات النص ومعايشة الكشف في القراءة، وقد ولّى الزمن الذي كان يُعدّ فيه الشاعر أبًا للنّص و»لم يعد القارئ مجرد مستهلك للنص، بل أصبح منتجًا له ومشاركًا فيه بصورة أو بأخرى» (6).
وإذا كان الهامش السابق لأجل إثبات الحقوق - إنْ صح التعبير - فإنّ الهامش الآخر في الديوان يظهر في صفحة مئة وتسعة وهو: «الشِّعرى اليمانية: نجم يعرفه ربابنة السفن وبدو الصحراء، وقد كان متعبدًّا في الجاهلية»، فيبدو أنّ غرض الهامش هو التفسير، ونرى أنّ الشاعر أساء إلى النص من حيث أراد أن يحسن، فهذا التفسير أولاً ليس ضروريًّا ويسيء إلى أدبية النص؛ لأننا نتعامل مع نص شعري وليس نصًّا علميًّا أو تاريخيًّا والنص الشعري هنا أحوج إلى الغموض منه إلى التوضيح؛ لأنّ التفسير يسلب النص تمنّعه وهو تمنع مرغوب بل ومطلوب (7)، فضلاً عن أنّ هذا التفسير ضيّق معنى «الشّعرى» في بحر المعنى الواسع وقصرها على ما فسره الشاعر، وكان من المفترض أن يفرض النص سلطته على القارئ ولكنّ الشاعر تولى هذه المهمة بدلاً منه، ولولا هذه السلطة التي أوقعها الشاعر علينا لفهمنا «الشّعرى» على أنّها رمز للتسلط والاستبداد أو رمز لسيطرة المحبّ أو غير ذلك.
ومن آليات التناص في الديوان - أيضًا - الحواشي النصية: وهي أن يرفق الشاعر «نصه بحواشٍ في بداية العمل أو في نهايته لتفسير النص من خلال تحديد سياقه وإبراز مناسبته» (8)، وقد ظهرت الحاشية النصية مرة واحدة في ديوان «حورية البحر» وقد جاءت في صدر الصفحة ونصَّ فيها الشاعر بمناسبة القصيدة فكتب: «بمناسبة فوز بلدية صور بكأس حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - يحفظه الله - وإحراز بلدية صور المركز الأول، وبلدية جعلان بني بوحسن المركز التاسع» (9).
إذًا فالقصيدة جاءت تلبيةً للمناسبة ومراعاةً لضرورةٍ اجتماعية فلم يأتِ النص تلبيةً لخيال الشاعر وإنّما أُلّف تحت ضغط الضرورة، فكأنَّ الشاعر يلتمس العذر من القارئ من خلال الحاشية السابقة في مباشرة القصيدة وتقريريتها الواضحة، وقد تجلّت هذه المباشرة أو التقريرية في تراكيب من مثل: «يا سامر الحي هذي الكأس مترعة»، و»مجدنا اليوم يسمو في تألقه»، و»عادت بالبشرى مهنئةً»، فالقصيدة لم تستطع التخلص من سيطرة المناسبة السابقة، وأيضًا تراكيب مستهلكة من مثل: «يا صادح الأيك»، «أهلا بكم»، «جمع الأحبة»، وأفعال أمر من مثل: «حُثّ»، «اسجع»، «رجِّع» وهي تضعف النص، وكان من الأفضل لو أراد التأثير أن يلجأ إلى الإيعاز لا الأمر.
وفيما يأتي سنحاول أن نتعرّف على الآليات الأخرى التي ظهرت في الديوان من خلال قصيدة «مع الأعشى في سوق صحار»؛ لأنّ من الأفضل أن ندرسها في إطار النص، وكان عذرنا في الآليات السابقة يعتمد على الشكل فموقعها حول النص أوحى إلينا بأن نتعامل معها على الطريقة السابقة، أمّا هذه الآليات فوجودها ضمن النص هو ما حدا بنا نحو دراستها ضمنه.
نقول: إنّ استدعاء الأعشى في العنوان قد استدعى معه قصيدته المشهورة «ودّع هريرة»، وقد أقام الشاعر المعاصر مع الشاعر القديم حوارًا تفاعليًّا، ويُعدّ هذا الحوار شكلاً من أشكال التناص بل يُعدّ «أعلى مرتبة في التواصل مع النصوص والتعالق بها واستنساخها» (10)، ففيه لا يقف الشاعر «عند حدود الامتصاص والاجترار والاستفادة، بل يعمد إلى ممارسة النقد والحوار» (11). وهو انتماء مباشر إلى إرث شعري ضخم ولا يُعدّ قدحًا في مخيلة المبدع وإنّما يعكس مقدرة الشاعر المعاصر على التواصل وإقامة الحوار مع الشاعر القديم ومحاولته جعل هذا الحوار في شكل يتناسب مع الوضع، وهذا طبيعي فالشاعر المتأخر يُعدّ «امتدادًا طبيعيًّا للشعراء المتقدمين عليه الذين تمثل فنهم» (12).
وقد ظهر هذا الحوار في مطلع القصيدة من خلال لفظة «عانق» وقد جاءت من حقل قريب من الفعل «ودّع» وهو فعل أمر، وخطاب موجَّه إلى الأنثى «صحار» في مقابل الأنثى «هريرة»، وهذا التقابل يعكس موقفًا متقاربًا من موقف الشاعر القديم، وقد أدّى هذا التناص إلى أن يقع الشاعر المعاصر في هيمنة المطلع الطلالي الذي كان مألوفًا في القصيدة القديمة، قال البلال:
عَانِق صُحَارَ أقامَ الرّكبُ أم رَحلوا
والثمْ ثَراها فمنها ترتَوى القُبُلُ
وقال الأعشى الكبير ميمون بن قيس:
ودع هريرة إنَّ الركب مرتحل
وهل تطيق وداعًا أيها الرّجلُ
وقد اقتضى هذا الحوار التشابه في القافية التي لجأ إليها الشاعر القديم، والسؤال الآن: لماذا تناص الشاعر المعاصر مع الأعشى؟ ربما يعود ذلك إلى السياق الأكبر، وهو «زيارة الأعشى إلى عُمان» (13) ومدينة صحار كانت واجهة عُمان في ذلك الوقت، فهو حوار وتناص تاريخي جاء نتيجة زيارة من كلا الشاعرين.
وقد اقتضى هذا الحوار - أيضًا - مخاطبة الشاعر القديم مباشرة من خلال «صنّاجة العرب ألمم»، واستدعاء محبوبته «هريرة» واقعية كانت أم مفترضة من خلال تقمصها حقيقة من مثل: «عانق صحار»، و»مالت صحار، أو من خلال ذكر «هريرة» كناية عن «صحار» من مثل: «وذي هريرة تهفو نحوها المقل»، و»اصحب هريرة إنّ الركب منتحل».
ولم يكتفِ الشاعر من آليات التناص في هذا النص بالحوار التفاعلي فحسب، بل سعى إلى آلية أخرى، وهي التناص مع الرموز التاريخية مثل: «كليب، البسوس، جسّاس بن مُرّة»، والثقافية لاسيّما من [الآخر] الذي أثَّر في الثقافة العربية من خلال التثاقف أو غير ذلك، من مثل: «كفكا»، و»ديريدا». إذًا فقد تبيّن لنا سبب آخر لإقامة الحوار أو التناص مع الأعشى هو مشاكاة (من الشكوى) الأجداد لما وصل إليه حال الأبناء الثقافي، ومصداق ذلك يتمثل في قول البلال:
فكيف تنبجس الأشعار معربةً
وراهب الشعر بالتغريب منشغل
إذًا فقد حوّر الشاعر المعاصر تجربة الأعشى حتى تتوافق مع «رؤيته الذاتية مُتكئًا على تفاعل النص التراثي مع نصه» (14)، وقد ساهم هذا التناص والتفاعل في إدانة الحاضر الذي يمرّ به الشباب العربي، وإذا كان آباء الشاعر في موضع الشكوى والحنين فإنّ «كفكا» و»ديريدا» في موضع الاتهام والمساءلة.
إضافةً إلى ما سبق من آليات فإنّ الشاعر لجأ إلى التضمين، وهو «أن يضمّن المبدع كلامه شيئًا من مشهور الشعر أو النثر لغيره من الأدباء والشعراء» (15)، وقد ضمّن الشاعر: «ويلي عليك وويلي منك يا رجل»، و»كناطح صخرة يومًا ليفلقها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل»(16)، وأيضًا من قصيدة أبي عثمان ابن جني المشهورة في رثاء المتنبي ورثاء حال الشعر من بعده ومطلعها:
غَاضَ القَريضُ وأودتْ نَضْرةُ الأدبِ
وصَوّحت بَعد ريٍّ دوحةُ الكتبِ(17)
وقال البلال: «واليوم صوّح ذاك الغصنُ والزّجلُ»، فنفسية الشاعر المتوجعة على حال الثقافة استدعت تلك القصيدة التي تكابد الهم ذاته، إذًا فتلك النصوص المستدعاة مناسباتها تتناسب مع نفسية الشاعر المنكسرة في ضوء انكسار العروبة ورثاء الشعر وحال الثقافة في هذا الزمن...
عمومًا نقرُّ بأنّ الشاعر قد أحسن توظيف ظاهرة التناص في شعره فأصبحت قصائده عبارة عن لوحة فُسيفسائية من آليات التناص المختلفة، وقد امتزجت تلك المظاهر مع النصوص امتزاجًا مُحكمًا يصعب فَكُّ عُراه، فظاهرة التناص في شعر البلال عمومًا لم تأتِ دون سبب بل لأسباب تاريخيّة، وأخرى نفسيّة.
******
ملحق قصيدة «مع الأعشى في سوق صحار»
عانق صحار أقام الركب أم رحلوا
والثم ثراها فمنها ترتوي القبل
صناجة العرب ألمم.. فالنديم هنا
وذي «هريرة» تهفو نحوها المقل
غراء تنسجها النعمى.. ويثملها
لحن المتيم، إن غنى به الغزل
فرعاء، تختال في دل وفي غنج
هيفاء، ينضح من أعطافها الأمل
قد طرزتها القوافي الخضر مرتبعا
فغرد السهل فيها وانتشى الجبل
وطوف اللحن صداحا.. فسربلها
ببردة الوجد، إذ مادت به الذلل
يراقص النغم النشوان ساحلها
توق المشوق إلى اللقيا.. ولا يصل
مالت صحار وقد زمت رواحلها
عنا.. ولم يثنها التسبيغ والرفل
قبلت مبسمها.. لكنها هتفت
«ويلي عليك وويلي منك يا رجل»
أما ترى دوحة الأشعار خاوية
يا صادح الأيك قد أغوتكم السبل
ترثون أنا على الأطلال وقفتنا
أما ترى.. أنه يرثيكم الطلل؟
ديوانكم قط ما لذتم بمورده
ومنه من غربوا.. علوا وكم نهلوا!
تبارزون الدنا بالشرق مفخرة
لكن أهواءكم في الغرب تبتهل
لا تطربون لبوح الناي ينشدكم
شعراً به ينتشي الجلمود والقلل
شبابة العرب لم تسجع بمحفلكم
ولا رؤى بهوى الأهلين تتصل
لكن سامركم - لا عاد سامركم
وجدانهم بموسيقى «الجاز» يشتعل
فكيف تنبجس الأشعار معربة
وراهب الشعر بالتغريب منشغل
صناجة العرب يا ميمون قافية
تزرى بكفكا و(ديريدا) وما اشتغلوا
هامت بتطوافك الأشعار واعتنقت
هذا النفار.. وغنت شدوك المثل
هل الفيافي درت ما هاج رملتها
من شدوك العذب، هل تدري به الإبل
أو الخزامي، وقد ناغمت نفحتها
فهاجها الشدو بل غنى بها الثمل
هل كان تطوافك المضني لمسغبة
أم كنت من وهج الأحقاد ترتحل
لعل في نفحة الأشعار منتجعا
يشفي وتبترد الأشواق والوجل
«ميمون» أذكت «بسوس» كل عاتية
من الشقاق الذي ما انفك يعتمل
ونحن ألف بسوس في خوافقنا
جذلى لرؤيتنا نشقى ونقتتل
فلا «كليب» تناسى زيف عزته
وذاك «جساس» بالثارات ينتفل
وسفر أمجادنا الثكلى يسامرنا
ونحن من فيضه المدرار نختزل
أبا بصير وفي نجواك رائعة
يرنو لها الفجر بل تصحو لها الأصل
تنفس القفر شعرا وانتشى جذلا
إذ كان يغذوه منك الواكف الهطل
صناجة الشعر تذكي الشعر بارحة
خجلى ومن بوحها يستنكف الخجل
تفتر سافرة أزرى بروعتها
حلم يهدهده التهجين والدخل
ماذا دهانا؟! أنفنا من عروبتنا
وشاقنا جدل قد مجه الجدل
فالقابعون على شطآن حيرتهم
يندى بهم حلمهم والمكث والنقل
تمر سارحة حيرى فتصرعهم
فيخطلون.. وأنى يرتجى الخطل؟!
والخائضو لجة الأشعار ما انبلجت
أحلامهم.. ضل ما ألقوا وما حملوا
«كناطح صخرة يوما ليفلقها
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل؟»
نامت ربابتك الخضراء يا أبتي
واللحن أعفى وخانت شدوها الجمل
تمرغ الشعر لا يدرى.. أمربعه
بصفحة الشمس، أم بالوحل يشتمل؟!
قد كنت طيرا على أفنان مهجتنا
واليوم صوح ذاك الغصن والزجل
«ميمون» عفوا فلا تربع بمحفلنا
فاصحب «هريرة» إن الركب منتحل
****
الهوامش
1 - ناصر علي البلال، ديوان حورية البحر، ط:1، الشيخان للطباعة والنشر، القاهرة، 2001م.
2 - ناصر بن علي البلال، شاعر عماني معاصر ولد في ولاية «صور» الساحلية وتوفي بها، عشق البحر والشعر والسفر، كان يرى في مدينة «صور» العمانية ومدينة «الجبيل» السعودية المساكن الأولى للفينيقيين.
3 - أحمد الزعبي، التناص نظريًّا وتطبيقيًّا، ط:2، مؤسسة عمون للنشر والتوزيع، عمان، 2000م، ص: 50.
4 - أحمد سليم غانم، تداول المعاني بين الشعراء، ط:1، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2006م، ص: 99.
5 - جميل حمداوي، آليات التناص، منشور على شبكة الإنترنت www.merbad.net ص: 2.
6 - النص الشعري وآليات القراءة، فوزي عيسى، ط:1، دار المعرفة الجامعية، القاهرة، د.ت، ص: 7.
7 - ألّف بسام قطوس كتابًا بهذا العنوان: تمنع النص ومتعة التلقي.
8 - آليات التناص، ص: 2.
9 - ديوان حورية البحر، ناصر علي البلال، ط:1، الشيخان للطباعة والنشر، القاهرة، 2001م، ص: 99.
10 - آليات التناص، ص: 2.
11 - المصدر السابق، ص: 2.
12 - تداول المعاني، ص: 110.
13 - انظر شرح المعلقات العشر، للتبريزي، تحقيق عمر فاروق الطباع، د:1، دار الأرقم، بيروت، د.ت. ص: 293.
14 - جماليات الأسلوب والتلقي، موسى ربابعة، ط:1، دار جرير للطباعة والنشر، عمّان، 2008م، ص: 112.
15 - آليات التناص، ص: 2.
16 - انظر شرح المعلقات العشر، ص: 293.
17 - الفسر شرح ديوان المتنبي، لأبي الفتح عثمان ابن جني، تحقيق صفاء خلوصي، الأول والثاني من منشورات المؤسسة العامة للطباعة والصحافة، بغداد 1389هـ/ 1969م، والثالث والرابع من منشورات وزارة الثقافة العراقية، بغداد 2002م، ص: 17.
* باحث من سلطنة عُمان