الرياض - خاص بـ»الجزيرة»:
الإسلام دين الوسطية والاعتدال، إلا أنه قد لحظ في السنوات الأخيرة في عدد من المجتمعات الإسلامية تصاعد خطابات التشدد والعنف، التي تبتعد عن هذه الوسطية، وتعرّض مستقبل المجتمع للخطر لأنها تمس قيم الوحدة والترابط التي تكفل الأمن والاستقرار في المجتمعات.. بل وفي أحيان أخرى تهدد سلامة المجتمع وأمنه، وتوجد النزاعات بين مختلف أطيافه وتقسمه، كيف يمكن مقارنة مثل هذه الأفكار التي تسعى في بعض توجّهاتها لتحقيق مكاسب سياسية على حساب وحدة المجتمعات؟ وكيف نعيد أصحاب مثل هذه التوجهات الشاذة إلى منهج أهل السنّة والجماعة وتحقيق مصالح البلاد والعباد، وتحقيق الانطلاقة للمجتمعات الإسلامية في هذا العالم والمشاركة في الحضارة الإنسانية؟ كانت تلك المحاور التي طرحناها على اثنين من أصحاب الفضيلة المشايخ المتخصصين في علوم القرآن الكريم والسنةّ النبوية.. فماذا قالوا؟!
الطريق الشرعي
يبين د. خالد بن إبراهيم الرومي الأستاذ المشارك بقسم السنّة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، أن: الدين الإسلامي الذي لا يقبل الله تعالى غيره، ومن فضل الله علينا أن جعلنا أمة وسطاً {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ .... }، والوسط هو العدل الخيار فهذه الأمة عدول خيار والوسط ما كان بين طرفين، وهذه الأمة بين طرفين من الأمم، طرف الغلو الذي في النصارى وطرف التساهل الذي عند اليهود، ونحن المسلمين على طريق وسط بين الغالي والجافي بين الإفراط والتفريط، وحينما ننكر على أهل الغلو والتشدد غلوّهم وتشددهم، فإننا في الوقت نفسه ننكر على أهل الإفراط والتساهل المضي إلى التملل والتميع، وإن من المصائب التي عنيت بها الأمة، وجود طائفة من المسلمين وقعت في جانب التشدد البعيد عن الوسطية فشقوا على أنفسهم، وقادهم ذلك إلى أفكار بعيدة عن الدين مخالفة للشريعة، وما أولئك النفر الذين حضروا إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته فتقالوها وحرموا على أنفسهم ما أباح الله فأنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أما أنا فأصلّي وأنام وأصوم وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنّتي فليس مني)، وعلى هذا فالتشدد والغلو يُخرج الإنسان عن الطريق الشرعي والهدي النبوي، ولا شك أن أفضل الهدي هدي نبينا صلى الله عليه وسلم، ويزداد الأمر خطورة إذا أدى هذا التشدد إلى تصديع المجتمع وتفريق كلمته وقذف التهم على المجتمعات المسلمة، بل ربما كان سلّماً لتحقيق مآرب دنيوية أو غايات مادية، والسؤال هنا كيف السبيل لإعادة أصحاب هذه الأفكار إلى الجادة والمنهج السديد، لاسيما إذا علمنا أن فئة يدفعهم حب الخير والرغبة في نصرة الدين ولكنهم أخطأوا الطريق وجانبوا الصواب والسبيل هو أخذهم بالرفق واللين فما كان الرفق في شيء إلاّ زانة... ثم محاجتهم بالدليل الشرعي الصريح والصحيح ثم البراهين العقلية، والمحاجة بتاريخ السلف والخلف من أئمة المسلمين وعلمائهم وفضلائهم، مع الدعاء لهم بالهداية للحق، ومما يجدر الإشارة إليه أنّ من أهم ما ندربه هذه الأفكار منع الأفكار المضادة التي هي على النقيض، والتي ربما أدت إلى استفزاز أرباب هذه التوجيهات ثم الوقوع في الغلو على الجانب الآخر... فالحل إذاً هو اتخاذ الطريق الوسط، ومعالجة الجانبين لأنّ التوجيه لجانب وإغفال الآخر لا يؤدي إلى النتيجة المطلوبة والهدفلمنشود.
مقاومة الفكر المتشدّد
ويؤكد د. عادل بن محمد العُمري أستاذ الدراسات الإسلامية المساعد بجامعة القصيم: أنه قد تصاعدت في مجتمعاتنا الإسلامية في السنوات الأخيرة، خطابات التشدد والعنف التي تبتعد عن الوسطية الإسلامية المحمودة، وتُعرِّضُ مستقبلَ أمتنا للخطر، لأنها تمس قيم التعايش الديني والاجتماعي والحضاري مع الآخرين، وتهدد الأمن والاستقرار في المجتمعات؛ مما يتطلب مقاومة هذا الفكر المتشدد الذي لا يهمه التقدم الحضاري للمجتمع الإسلامي، بقدر ما يهمه من فرضٍ لقيمه الأيدلوجية الحركية التي تسعى لبعض المكتسبات السياسية التي تهدد وحدة المجتمع، ولقد أتاح أصحاب هذا الخطاب الفرصة للإعلام الغربي استغلالَ ظاهرة التشدد الإسلامي؛ لكي يطلقَ تعبيرات ومصطلحات مختلفة تجاه المسلمين ودينهم، وهذه التعبيرات هي جزء من محاولة إلصاق تهم التطرف والإرهاب والأصولية؛ لتشويه صورة الإسلام والمسلمين في نظر العالم الغربي، ولاسيما مصطلح الأصولية الذي شاع بشكل كبير في الوقت الحاضر بدلالته الغربية، فأُخذ الكثرة بخطأ القلة، وعُمم شطط المشتط على إحسان المعتدل البريء، والإسلام إنما جاء لسعادة البشرية وليس لشقائها وجاء ليبني لا ليهدم, وجاء ليجمع لا ليفرق، إننا نعيش في مرحلة زمنية صعبة تحتاج منا إلى كثيرٍ من التروي والمراجعات الجادة المستندة للأدلة والبراهين النقلية والعقلية، كما أن الإسلام في أيامنا هذه أحوج ما يكون إلى من يحسن عرضه على الناس والدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، وجوهر ذلك الاعتدال والوسطية في الخطاب، والحرص على كسب العقول والقلوب، وذلك لا يتأتى إلا بالعلم وبالعلماء وبالمثقفين والمفكرين، وبالابتعاد عن الجهلة وأدعياء العلم والمتطرفين المتشددين الذين يتبنّون الآراء المسبقة؛ لإرغام الناس على الأخذ بها, ولا غرو أن تجدَ في كثيرٍ من القنوات والمواقع الإلكترونية تصدراً لقليلي العلم والفكر بلا علم ولا فقه ولا رأي ولا رجوع إلى أهل العلم والفقه والتجربة والرأي.
ثقافة قوية متينة
ويطالب د. عادل العُمري المؤسسات الدينية والتعليمية والدعوية، معالجة موضوع التشدد والغلو بكافة أنواعه، فالحاجة إلى معالجة هذا الأمر عند المسلمين أوجب، وإلحاحها أشد؛ ذلك لما عرَضَ المسلمين له من ويلات، ولما تعرَّضوا بسببه من جنايات على كتاب ربهم, وعلى سنّة نبيهم صلى الله عليه وسلم، بل وعلى شخص نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، وعلى تلك المؤسسات أن تقف وراء كلِّ المحاولات التي يبذلها أصحاب هذا الخطاب الذين لا يرون العالم إلا من خلال مناظيرهم الضيقة؛ لإقصاء من يخالفهم الرأي أو الفهم، ولو كان على ملتهم ودينهم، وحجتهم في ذلك نصوص مبتورة عزلوها عما سبقها ولحقها، وتمرَّسوا وراءها فلم يعرفوا لها علة ولا مناسبة، أو الظروف الموضوعية التي قيلت فيها، وعلى مؤسساتنا الدعوية والتعليمية ترسيخ مفهوم الوسطية وعدم الخوف من ثقافات الآخرين، فثقافتنا الإسلامية ثقافة قوية ومتينة، واثقة من نفسها، لم تخشَ التلاقح مع الثقافات الفارسية واليونانية والهندية، وغيرها من الثقافات السائدة في القرن التاسع الميلادي، وقبل هذا التاريخ، والتعارف والتعاون بين الشعوب سمة أساسية من سمات الإسلام الحنيف، وليس أدل على هذا من بلاغة القرآن الكريم، فلو نظرنا في سورة الحجرات، لوجدنا أن المولى تبارك وتعالى يقول: (يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَّأُنْثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوْبًا وَّقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوْا)، فالالتقاء بين الأمم والشعوب؛ لمزيد من التفاعل والتواصل الحضاري.
التواصل والتفاعل
ويشير د. العُمري إلى أن الحضارة الإسلامية عندما دان العالم لها بالقوة والسيادة، لم تسعَ إلى ابتلاع الآخر، أو فرض هيمنتها على الآخرين، بل على العكس فلو نظرنا إلى هذه الحضارة؛ لوجدنا أن أهم سماتها هو التواصل والتفاعل مع الحضارات المجاورة، فلقد استفادت الحضارة الإسلامية من تراث الإغريق والرومان، وقد تمَّت ترجمة مؤلفات أرسطو وطب أبقراط وهندسة أقليدس، ثم أبدع العالم المسلم من قريحته الفكرية وأضاف إلى هذه الأفكار أفكارًا أخرى، وظهرَ طبُّ ابن سينا ويتمثَّلُ ذلك في كتاب «القانون» في الطب، ومن خلال الترجمة ونهوض العلوم الطبيعية العربية في العصر العباسي، وفي عصر الخليفة المأمون على وجه الخصوص، رغم بطء التلاقح بين الحضارات والثقافات القديمة لبطء الاتصالات، فلم تسعَ الحضارة الإسلامية إلى ابتلاع الحضارات المجاورة، أو إقصاء ثقافات الآخرين. وليس معنى ذلك التواصل: التخلي عن الثوابت العقدية، والقِيَم الأخلاقية التي هي أخصُّ خصائص ثقافتنا الإسلامية، أو المطالبة بالإيمان بثوابت الآخرين؛ لكن المقصود أن لا نُقصي الآخر وثقافته التي يؤمن بها، ومن هنا تكون أرضية الحوار أرضية بنّاءة لمزيد من التعايش بين الشعوب والحضارات، ولذا استوعبت الثقافة الإسلامية الاختلاف في الرأي، فظهرت المدارس الفقهية بأنواعها؛ كمدرسة أهل الرأي، ومدرسة أهل الحديث، وظهرت على ضوء ذلك المذاهب الفقهية: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، والأخذ من وسيع الفقه الإسلامي من خارج هذه المذاهب من كتب الفقه؛ لتحقيق مصالح البلاد والعباد، وبما يلائم الانطلاق في هذا العالم والمشاركة في الحضارة الإنسانية.
إنّ الأمة بحاجة إلى فهم واع ودقيق للنصوص الشرعية في جو من الرحمة والتيسير، والاجتهاد في مسائل الفروع أمر كفلته شريعة الله سبحانه وتعالى، حتى لا تتعطل الملكات العقلية والقدرات الفكرية للناس، فإذا كانت سنة التقدم والتطور واقعة في دنيا الناس، فإنّ ذلك يقتضي وجود مستجدات واستحداث مخترعات في شتى مجالات الحياة في السلوك والمعاملات.