عُرِضت وظيفة مرموقة على أحد الأصدقاء من الكفاءات المناسبة لمهام الوظيفة وهو يقضي أغلب وقته في المنزل ورفضها رغم المغريات من جهة المنصب وجهة الراتب والمميزات الإضافية الأخرى، وقلت له لماذا هذا الرفض؟ فأجابني ببساطة لأنها لا تلبي طموحاتي من جهة الدخل ورغباتي من جهة عدم الارتباط بأوقات عمل محددة وأنظمة وعلاقات وظيفية روتينية، فقلت له لماذا وأنت تقضي معظم وقتك في المنزل؟ فأجابني إني أحب الشغل ولا أحب الوظيفة، وأنا أشتغل في منزلي وأنتج وأبيع ما أنتج بدخل كبير باستخدام التقنيات الحديثة لصناعة المحتوى ونقله للمستفيدين.
وللأمانة استوقفتني إجابته كما أثارت دهشتي فقلت له وما الفرق بين الشغل والوظيفية من وجهة نظرك؟ فقال لي كان أجدادنا يشتغلون دون وظيفة حيث يشتغلون بما يدر عليهم الإيرادات المالية حسب المواسم وحسب ما هو متاح فتارة يشتغلون بالزراعة وأخرى بالرعي وثالثة بالبناء وهكذا، حتى تشكلت الدولة الحديثة بعد الثورة الصناعية في الغرب حيث جاءت فكرة الوظيفة المرتبطة بمهام ومؤهلات معينة والمحددة وقت البدء والانتهاء والمترابطة العلاقات الوظيفية مقابل أجر شهري مع بعض المميزات والحوافز، فبدأ الجميع يبحث عن الوظيفة حيث العمل المحدد والدخل الواضح والمتزايد بمرور الزمن.
ويضيف أنه ونتيجة الثورة المعرفية الحديثة رجعنا إلى ما كنا عليه حيث بدأ البعض يترك الوظيفة ويتجه للشغل بما لديه من معارف ومهارات وعلاقات حيث يقدم خدمات أو منتجات من منزله أو من أي مكان يختاره طرفي الخدمة مقابل تكاليف مقطوعة تحدد بالقطعة أو بالساعة أو بنوعية الخدمة خصوصاً إذا كانت ذات طابع إبداعي يتطلب قدرات فكرية متفردة أو متميزة وخبرات متراكمة، ويؤكد أنه يعمل متى شاء دون ارتباط بأوقات محددة حيث ينتج ما يطلب منه في أي وقت يشاء في الصباح أو المساء أو منتصف الليل مقابل تكاليف متفق عليها عادة ما تكون كبيرة لأن عمله إبداعي لا يمكن لأي كان إنجازه.
وقادني فضولي لأسأله فيما إذا كان يعاني من انقطاع في الدخل؟ فقال لي إن ما يحصل عليه في شهر يعادل الدخل المعروض عليه بسنة وأنه تنقطع عنه الإيرادات أحياناً إلا أن مدخراته مما يحصل عليه مما يعمله تغطي الأشهر التي لا يحصل بها على دخل وهي أشهر نادرة جداً فالشغل والحمد لله متوفر متى ما تم احترام العملاء وتقديم الخدمات لهم بأعلى جودة ممكنة مع الالتزام بأخلاقيات العمل.
عندئذ تذكرت كلمة لأحد الرؤساء التنفيذيين لأحد الشركات عندما قال لي إنه من الصعب تحديد دخل المواطن السعودي بهدف معرفة القوة الشرائية في البلاد حيث إن معظمهم لديه مصادر دخل غير معروفة وغير مقيدة ولا يوجد نظام ضرائب يجبرهم على تحديد ذلك، وحيث يعمل أكثرهم في وظيفة ويشتغل في مجالات أخرى كالسمسرة على الأراضي أو الترخيص لمحلات خدمات وتضمينها على العمالة الوافدة، أو تقديم خدمات وسلع من المنزل مثل تنظيم الحفلات وبيع الأطعمة وخياطة الملبوسات وغير ذلك.
ويذكرني هنا قصة شراء أرملة سعودية لمنزل جارها رغم أنها لا وظيفة لها حيث قامت بشراء منزل جارها بالتقسيط لمدة سنتين سددتها في وقتها نتيجة عملها في مجال تجهيز الأطعمة المميزة وبيعها والتي نالت استحسان أهالي المحافظة وحققت من ورائها أرباحاً طائلة مكنتها من الوفاء بعدها وتحسين دخل أسرتها وتربية أبنائها دون الحاجة لمد يدها للآخرين.
المقيمون في البلاد يأتون لبلادنا بتأشيرة إقامة مدفوعة ويتحملون تكاليف سنوية للكفيل مقابل تركهم يشتغلون في السوق السعودية المغرية التي توفر لهم فرص شغل تحقق لهم إيرادات مجزية، فمتى ننتبه لفرض الشغل في بلادنا وإيرادها للمواطنين وتأهيلهم وتحفيزهم لاغتنام فرص شغلها؟ نعم هناك جهود محدودة في هذا الاتجاه حيث تقوم بعض الجمعيات الخيرية بتأهيل بعض الفئات لاغتنام هذه الفرص ولكنها بكل تأكيد غير كافية ويمكن التوسع فيها لتحقيق السعودة في الشغل جنباً إلى جنب مع تحقيقها في مجال الوظائف.
ختاماً أعتقد أن جهداً منسقاً بين وزارة العمل ومؤسسات التعليم والتدريب الفني والمهني والغرف التجارية ووزارة التجارة وأمانات المدن وبلدياتها يمكن أن تلعب دوراً كبيراً في التوجه لتفعيل خيار الشغل بدل الوظيفة لتمكين الكثير من المواطنين من استثمار فرص الشغل المغرية التي تدر أموالاً طائلة لمن يشتغل بها دون الحاجة لوظيفة تقليدية راتبها معاش في نهاية كل شهر كما هو معروف.
alakil@hotmail.com