لم يكن ميدان التحرير بمدينة القاهرة إلا موقعا إنشائيا في وسط مدينة القاهرة يرمز إلى تحرير مصر من الاحتلال البريطاني. بيد أن أحداث 25 يناير الماضي غيرت من أهمية ذلك الموقع مرة أخرى ليصبح ميدانا لثورة الشباب على النظام السياسي الماضي وكافة رموزه السياسية والاقتصادية. الميدان أصبح ملتقى للشباب وغير الشباب من كافة الأعمار والفئات والمرجعيات، بل وحتى الديانات. بل أصبح الميدان مزاراً للسياح ولكل من يفد للسياحة إلى القاهرة بعد ذلك التاريخ، خصوصا بعد الأحداث الهامة التي تلته وتعاقبت عليه بشكل متواصل، تحديداً الأحداث السياسية التي وقعت في يوم الجمعة الثامن من شهر يوليو من العام 2011م. قبيل فجر ذلك اليوم قررت التوجه إلى ميدان التحرير لمراقبة الأحداث القادمة عن كثب، نعم فالسلوك السياسي لمن شاركوا في تلك المظاهرة المليونية مهم جدا لمعرفة لماذا؟ وكيف؟ وما هي أهم نشاطات المتظاهرين ومطالبهم، وفعاليات أجندتهم؟ خصوصا التفاعلات التي تدور فيما بين مختلف الجماعات المشاركة في تلك التظاهرة. الطريق الدائري كان خاليا من عربات النقل الضخمة، في ذات الوقت الذي كثرت فيه العربات الصغيرة التي كانت تقل الكثير من السياح المسافرين على عجالة من القاهرة خوفا من تداعيات ومغبات المظاهرة. الملفت للنظر خلو شوارع القاهرة على غير المعتاد من المارة والعربات وغيرها، إلا من الأفراد وبعض الجماعات المتجهين إلى ميدان التحرير للمشاركة في المظاهرة. قبل الدخول إلى ميدان التحرير وقفت أعداد من الشبان يتفحصون القادمين إلى الميدان ويفتشونهم إن تطلب الأمر مع إعطائهم بعض التعليمات من أن المظاهرة سلمية. نعم قبل صباح يوم الجمعة، تحديداً منذ مساء يوم الخميس انسحبت قوات الأمن والجيش من ميدان التحرير، بل ومن كافة المناطق المحيطة به، والمؤدية إليه حتى لا تحدث مناوشات أو مواجهات بين المتظاهرين وبين قوات الشرطة تحديداً. في ميدان التحرير وقفت أعداد كبيرة من الشباب وغيرهم في شكل جماعات تتهيأ للعمل في الميدان ببناء الخيام ووسائل تقيهم من الشمس المحرقة، وأيضا تحسبا لما لا يحمد عقباه فيما لو حاول البلطجية الدخول إلى الميدان. أحاديث جانبية حماسية، ومحاولات لتوحيد المطالب كانت السلوكيات الطاغية على معظم الحوارات التي اكتظت بها الساحة. في ذات الوقت كانت الوفود والجماعات رجالا ونساء وأطفالاً وشيوخاً معظمهم من أسر الشباب المشاركين في التظهرة تفد إلى الميدان، يلقون التحية، ويتصافحون مع الموجودين فيه. المطالب كانت واضحة ممزوجة بعبارات الغضب التي تحركها شحنات ضخمة من الحماس المنقطع النظير، والاستعداد بقوة الإرادة للتعبير عن تلك المطالب مهما كان الثمن. ضرورة محاكمة الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك وكافة رموزه، رفض الأحكام الأخيرة على بعض الرموز، تغيير رئيس الوزراء، بل وتغيير قادة الجيش. مطالب عالية، حاول البعض جاهدا ألا يندرج فيها مطلب تغيير قيادة الجيش. هنا اختلفوا، البعض منهم أشار إلى افتقار قادة الجيش للحس السياسي وللرؤية السياسية الصائبة في إدارة البلاد. فيما أكد آخرون أن الوقت لم يحن بعد لذلك المطلب، فالزمن الذي بدأت قيادة الجيش فيه سياسات الإصلاح لم يكن كافيا. لنعطهم فرصة أطول، ولنراقب ما سيفعلون في الشهرين القادمين، كانت هذه العبارة الأكثر ترددا في الميدان. الملفت للنظر أن الميدان اكتظ بأعداد ضخمة من البشر، منهم من يشارك سياسيا، ومنهم من يبحث عن لقمة العيش (الباعة)، ومنهم من كان يشارك من أجل المشاركة لأسباب مختلفة. ومنهم من حمل صور وملابس الشهداء الذين قتلوا في الميدان وفي أماكن أخرى مطالبين بالقصاص لهم. الملفت للنظر انعدام وجود أية مشاحنات أو خلافات بين المتظاهرين وجميع من حضروا إلى الميدان، التوجهات اتحدت، والمطالب شبه توحدت، والتركيز كان على ضرورة إنجاح الثورة وعدم وقوعها في متاهات الخداع والتعطيل والتسويف. لم يكن في الميدان، كما هو حال خارجه، من يتذمر من وطأة الاختناقات الاقتصادية التي عصفت بمصر منذ بداية الثورة. الكل كان يؤكد على ضرورة استمرار الثورة ونجاحها بأي ثمن كان. خارج الميدان في استطلاع للرأي قبل يوم الجمعة، اشتكى الكثير من الاختناقات الاقتصادية وانعدام السياحة وتوقف الأحوال وانعدام الفرص الوظيفية. الإجابات على السؤال: هل تنقمون على شباب الثورة والثورة؟ كانت نعم ولا، وهي متناقضات تثير الحيرة بكل معنى الكلمة. نعم ننقم عليهم لانعدام لقمة العيش...لكننا نؤيد الثوار والثورة لتغييرهم للنظام. هذا هو الثمن الذي تدفعه الأغلبية في ذات الوقت الذي تنهمك فيه الأقلية في تحقيق أهدافها ومصالحها التي تشترك فيها مع الأغلبية. مصر منذ 25 يناير الماضي ليست بمصر قبل ذلك التاريخ سياسيا، لكنها أسوأ بكثير اقتصاديا واجتماعيا. وإحداث يوم الثامن من يوليو الحالي حتما ستغير مصر سياسيا على المدى البعيد، ولكن السؤال هستغير الأحوال الاقتصادية إلى الأفضل في المدى القريب والبعيد.؟ هل سيصمد الشعب المصري تحت وطأة ضعف الاقتصاد واضمحلال الموارد خصوصا متطلبات لقمة العيش؟ وإلى متى يمكنهم ذلك؟ تلكم الأسئلة التي قال عنها شكسبير «نكون أو لا نكون ذلكم هو السؤال»
www.almantiq.org