مدخل:-
هي الأماكن التي زرتُها تتوشح بالسواد
لمستُ المقعد الخشبي بعد أن نفضتُ الغبار عنه، تحسسته جيداً ثم جلس تُبعد أن أسند تظهري وتعب السنين عليه، دموعي تسيل بغزارة، لا أعلم أهو الحنين لهذا المكان، أم ثمة أشياءٌ أجهلها مدفونةٌ في هذه البقعة المعزولة عن البشر !
لا أحب أن يرى دموعي أحد؛ لذلك آني إلى هنا كلما طفح الكيل، وهدأ الليل. لقد طال عهدي بهذا المكان، ولا غرو أن يستقبلني بفضاضة، أصبحتُ كالغريبة لا أحد يعرفني سوى الجمادات المتناثرة في فناء هذا المنزل العتيق، تُمسك بثيابي بقايا كرسي متهالك؛ فأتوقف لأفُك ما علِقَ وألعق جراحي بصمت.
تطأ رجلي على سجاد وثير بلي من أشعة الشمس الحارقة؛ لقد كنت أغسله مراراً، ولم أعهد أني نسيته في الهواء الطلق، واليوم أجده يابساً مُصفراً، جار عليه الزمن فأصبح مداساً للأقدام، بعد أن كان يفرشُ عند المنام !
منظر الشمس من العِلية يذكرني بطعم الشتاء القارص، وبأكواب دافئة تُغمسُ في الخبز الحار.
لا تزالُ النوافذ ذات العوازل الخشبية تقيها تقلبات الجو ، وتستر بُنياتٍ ينمن فيها.
باحة المنزل الكبير حيث يجتمع أبناء العمومة ، نتقاسم وإياهم حتى الحلوى، ونعِب من الماء البارد بعد أن يضنينا العطش في قيظٍ لا يرحم.
فسائل النخيل الباسقة يراها كل من قصد منزلنا، كم شهدت شقاوتنا؛ كنا نتقاذفها بما تحمله أيدينا الصغيرة حتى تسقط على الأرض،فنلوكها رغم مرارتها.
رائحة الطيب عالقةٌ بكل حواسي مساءً، حيث كانت أمي تُطيب غرفتها، وعلى المشجب كنتُ أعلق ملابسي الجديدة التي كانت تحيكها أختي لنلبسها في المناسبات كالعيد ورمضان .
وفي ذلك الرف كتب صغيرة هي سلوتي في الليل، أُقلب النظر في سندريلا التي لازلت أعشقها ، والجرة الذهبية التي أهديت لي من معلمتي. هل يمكن لهذا المكان أن ينساني ويعدني غريبة بعد مضي أكثر من عشرين عاماً منذ تركته ؟
لو استنطقت هذه الجمادات لنطقت بالحنين وبالحب الدفين.
ياه لقد مضى علي الوقت هنا قبل أن أغلق هاتفي المحمول؛ كي لا يقطع شوارد فكري الذي ينساب الآن كنهر متدفق لا ينضب.
آن الأوان أن أترك قلبي هنا وأعود، تحوطني دعوات أبي ونداءاته التي أسمعها في كل ركن هنا، آن الأوان أن تكتسي هذه الأرض بالبياض.
الرياض