يعاني القطاع الصحي من القطاعات ظاهرة بارزة تتمثل في الإصرار على ترقية الأطباء على وظائف إدارية ومنحهم ميزات مجزية وكبيرة لأجل التحول للعمل الإداري بدلاً من الدفع بهم للتميز في أدائهم الطبي المهني والحفاظ عليهم كأطباء متميزين يحتاجهم المرضى أكثر مما تحتاجهم الإدارة. المنطق والعقل يشير إلى أن الإنسان لا يملك سوى أربع وعشرين ساعة في اليوم، وطالما قضاها الطبيب أو قضى جزءاً منها في الإدارة، فهذا يعني أنه استقطع ذلك وقت عمله كطبيب. الملاحظ ليس فقط مكافأة الطبيب على المنصب الإداري، بل وتخفيض نصابه من العمل الطبي أو إلغاءه دون إلغاء أو تخفيض مميزاته الوظيفية كطبيب يعمل بدوام كامل. لست أخص أحداً بعينه، فجميع الجهات الصحية تفعل ذلك بقيادة تلك المتميزة، التي أصبحت برامج التشغيل مجالاً لها لوضع الرواتب والمكافآت الضخمة دون رقيب. تلك البرامج التي أصبح فيها الطبيب هو القائد وهو المشرع وهو الرقيب. حسب تقرير وزارة الصحة المنشور على موقعها يعمل أكثر من مائة طبيب بديوان الوزارة، على وظائف جلها ليست إدارية طبية. لقد أصبحنا نرى الطبيب الاستشاري مسؤولاً عن تنظيم المعارض والندوات (في جانبها التنظيمي الإداري وليس العلمي) وعن أقسام البروتوكول وعن أقسام الأعمال وعن إدارات التخطيط وعن إدارات التدريب غير الطبي وعن إدارات الملحقيات وعن إدارات كثيرة ليست من صلب المجال الطبي ولا يملك فيها الطبيب أي تأهيل كاف يسمح له بمزاولتها. وكل ذلك على حساب العمل الطبي المهني العيادي، شئنا أم أبينا. نجد الطبيب يحصل على بدل إدارة ولا يخفض بدل تفرغه الطبي مقابل عدم تفرغه للعمل الطبي. بل إن أطباء الوزارة ابتدعوا طريقة أخرى لمضاعفة امتيازاتهم المالية عبر عضوية مجالس ولجان إدارات مستشفيات برامج التشغيل وشركة الأدوية التي أنشأتها الوزارة، وعبر التكليف الذي يبقيهم على وظائفهم الطبية بمستشفياتهم حتى لا يفقدوا ميزات الممارسة الطبية، رغم أنهم لا يمارسون أو يمارسون فقط في الحدود الدنيا للعمل الطبي العيادي. هناك قناعة بأن برامج التشغيل الذاتي هي الخيار الأفضل لإدارة المستشفيات في الوقت الراهن، بحجة فشل التجارب الأخرى (رغم الحاجة إلى تأكيد ذلك علمياً)، لكن هذه البرامج أصبحت مجالاً لتضخيم رواتب فئات قليلة من الأطباء عبر مبررات الندرة. الغريب أنه برغم بدلات الندرة فإن ذلك الطبيب النادر تخصصه يعين في منصب إداري. لقد تجاوزتواتب بعض الأطباء في المستشفيات التي تدار عن طريق برامج التشغيل المائة ألف ريال، عدا الميزات الأخرى. وهي رواتب لا تحصل في أي مكان، إذا ما أخذنا في الاعتبار أنها رواتب ليس عليها ضرائب وأخذنا في الاعتبار معدل دخل الفرد السعودي ومعدل الرواتب في القطاع الحكومي. أعلم بأن البعض سيتهمني بالحسد للآخرين وسيلومني بصفتي أحد الممارسين الصحيين المستفيد من مثل تلك البدلات، لكن الأمر وصل مرحلة تمايز يخل بالعدالة ويخل بالأداء الطبي لدينا سواء في حدوث المحسوبيات أو في تحويل المتميزين إلى إداريين أو في تولي غير المؤهلين للمناصب الإدارية.
القاعدة واضحة؛ إذا وضع التشريع في يد المنفذ وأصبح التنفيذي هو الرقيب فإن حدوث الخلل أمر وارد، لذلك نحتاج التدخل من الجهات التشريعية والرقابية المحايدة وغير المنحازة لفئة دون أخرى، لتقنين الوضع وكبح ما يحدث من تنظيمات يضعها البعض لخدمة مصالحهم. هناك حاجة إلى سد الفجوات القانونية والنظامية التي تبيح مثل هذه الأمور الغير منطقية، وهناك حاجة إلى تحفيز المبدعين من الأطباء للترقي والتميز في عملهم الذي لأجله تدربوا والذي يحتاجهم مجتمعهم فيه بشكل أكبر.
malkhazim@hotmail.com