تبدى فوق كتف الجبل، وكان يظهر لوهلة خاطفة وما يلبث أن يتوارى خلف الصخور، وقف محدودباً هيئته رثة، عيناه زائغتان تتلفتان حوله بحثاً عن أي صخرة يلتقطها بعنف ويقذفها من أعلى قمة الجبل ثم يغمض عينيه وهو ينصت بمتعة وراحة لصدى صوت هذه الصخور تتدحرج بين الجبال.
هذا حاله كل صباح.. فلا زوجه تواسيه..ولا أولاد يداعبهم.. بخطوات عاجزة وبطيئة عاد لبيته الصغير.. فتح بابه المصنوع من الخشب, دخل بهدوء ونظر لمرقده الذي لم يتغير من سنين. استرخى قليلاً وبعد نفس عميق باغتته طرقات على بابه المكسر، انكمش في سريره ولم يتحرك ولم يُجب على الطارق، عندها فُتح الباب وبتردد كبير رأى ظلال لرجل شامخ القامة يدخل إلى كوخه والدهشة تملأ عينيه، تسمّر القادم عند المدخل وهو يتأمل الجدران المتصدعة والغبار المتراكم فوق بعض الأواني التي يستعملها الرجل.
فجأة اعتدل صاحب الصخور في مرقده وزمجر بينما يده منقبضة على عصا يستعملها في سيره..
- «من يجرؤ على دخول بيتي دون علمي ؟!»
بلع القادم ريقه وقال بعد أن اتسعت عيناه بالدهشة لمنظر رجل الصخور المشعث..
- «أعتذر لتصرفي هذا، لكن لم أتوقع أن في هذا البيت القديم سكان، كما أنني طرقت الباب عدة مرات قبل دخولي،.... على العموم تشرفت بلقائك، أنا أدعى سعيد»
بدأت يد صاحب الصخور الملتفة على عصاه بشدة تلين، وبدأت أنفاسه اللاهثة بالغضب تهدأ، عندها وجدها سعيد فرصة طيبة لينسحب بهدوء، لكنه لم يصدق ما رآه، هيئة الرجل والكوخ بدا كالخيال، ظل يسأل المجاورين «هل حقاً يقطن هذا البيت أحد أم أنني أتوهم» قهقهوا وقالوا:
«لا بد أنك صادفت صاحب الصخور.. دعك منه فإنه يعيش في عالمه المجنون لا يلتفت لأحد ويمضي يومه بقذف الصخور من قمة الجبل».
ولكن تلك الحادثة لم تغادر ذهن سعيد ومع شروق شمس اليوم التالي عاد سعيد لذالك الجبل الشاهق ولم يتوغل بالصعود كثيراً حتى وقعت عيناه عليه، فدنا منه بحذر وقال:
- «هل أنت من يسميك أهل القرية صاحب الصخور؟»
ودون أن ينظر إليه أجابه بصوت منخفض:
- «نعم، وفي لحظات اختفى خلف أحدى منعطفات الجبل ؟!»
فدعا سعيدا الفضول ليجعله يتتبع خطاه ويلحق به. لم ينبته صاحب الصخور لوجوده أخذ يكلم نفسه وهو ينقب الجبل بحثاً عن أكبر الصخور حجماً محدثاً نفسه: «اليوم سأقذف صخور هم الفقر الذي رافقني طول حياتي, وغدا سأقذف صخور هواني على الناس، وبعد غد سأقذف صخور وحدتي بعد فشلي في تكوين أسرة».
فليذهب كل هم مع صخرة، فلتذهب كل همومي لقاع الوادي.
ظل سعيد متجمداً في صمت ودهشة وبينما الصخور تتدحرج على الجبال.. ارتفع صوت صداها لتملئ أرجاء الوادي في الأسفل، وظل هكذا حتى غروب الشمس.
بدأ ظلام الليل يحل والهدوء يعم القرية، أخذ سعيد يحدث نفسه «هل الهموم حقاً ترمى مع الصخور دون عودة؟ لا بد أن استفسر من هذا الكلام».
تسلّل صعوداً نحوه على ضوء قنديل خافت كان يحمله بيده ووجد الباب موارباً وأخذ ينادي بصوت مهذب:
- «يا صاحب الصخور؟! هل أنت بالداخل ؟!»
سيطر الخوف والقلق على قلبه عندما لم يجبه أحد، وفجأة لمح عينين تتأملانه في الظلمة بجوار الكوخ، فجمد الدم في عروقه وعجز عن الحركة، وجلجل صوت صاحب الصخور:
- «أيها الفضولي المزعج ماذا تريد مرة أخرى؟ يبدو أنك ستصبح أحد همومي التي ستتدحرج من هذا الشاهق يوم غد.
فما كان من سعيد إلى أن هرول مرتداً وهو بالكاد يرى طريقه في ظلمة الجبل، واختارأن يترك رجل الصخور يقارع همومه بالطريقة التي تعجبه دون تدخل منه.
وتروي الحكايات أن رجل الصخور ظل على حاله طويلاً، ولم يمت بسب المرض أو الشيخوخة.. بل يقال إن سبب موته تلك الصخرة التي كانت على صدره لم ترم من أعلى الجبل كما اعتاد كل يوم فلم يحتمل ثقلها.
إنه الهم الذي قتل صاحب الصخور.
بقلم الطالبة: صالحة عايض الأحمري -الثانوية (47)