أتعرفون من الذي قام باغتيالها أمام الناس؟ أتعرفون من الذي استولى على كحل عينيها وقوارير عطرها؟ أتعرفون من الذي سرق حتى الحناء من كفيها وقدميها، أتعرفون من الذي منع عنها الهواء, أتعرفون من الذي أدخلها إلى كهوف الجبال وهي ابنة البحر، من الذي أدخلها إلى غبار الصحراء حتى لم نعد نعرف ملامحها ولا يمكن لنا أن نستدل على رائحتها، غادرت البحر منذ زمن طويل، بكت كثيرا.. وكثيرا جدا، كنا نهدهدها بتلك المجسمات الجمالية، ونتناسى جمالها الحقيقي. نرغمها أن تصعد على الجبال، أن تغوص في رمال الصحراء، وأن تنسى نسبتها إلى البحر والأسماك والنوارس. حتى أكف الصيادين التي كانت تهيم بها غناء لا ينقطع وشوقاً للعودة إلى مرافئها باتت تتذكر وكأنما هو زمن موغل في البعد، موغل في الهجر.
صدقوني أن من شوّه العروس.. ليس المطر ولا الغيوم السوداء، وأن من عاث فسادا في جسدها الملقى على البحر منذ بدء الخليقة ليست وجوه تجار العقار التي تبيع وتشتري كل شيء ثم تأخذ نسبتها من هذا الجسد الملقى على البحر منذ آلاف السنين. صدقوني أن من سرق حليها وأساورها ومناديلها وهواء بحرها ونسيمها وأصوات نوارسها التي لم تعد تعرفها، حيث تبدلت النوارس ورحلت إلى شواطئ أخرى تاركة لها الغربان بقبح المنظر وقبح الصوت، صدقوني أن من بعثر شعرها وعاث في جسدها ليست تلك الوجوه البائسة التي تم حجرها في مناطق عشوائية لتتوالد مثل الأرانب وإنما لأن الأرض قد أصبحت نقدا في أيدي كبار العقاريين ولهم نقر المطر الذي لا ينقطع صوته فوق سقوفهم المفتوحة على السماء الذي لا يملكون إلا الدعاء من خلالها وهي التي يمكن أن تنجرف بهم في لحظة مأساوية.
لماذا هذا الحلم الكريه وهذا العنوان البائس (جدة وتزول) والذي غزاني طوال الليل حاولت إزاحته عن خاطري، هربت إلى النوم لكنه ظل يلاحقني مثل المطر في جدة، هذا المطر الذي أتذكر أن هناك بقية لا بد أن يشرقوا بالماء يصرخون من الماء.
أتعرفون من الذي اغتال جدة.. إنه البحر الأحمر خدعناه طيلة فترة من الزمن بأن هذه المدينة عروستك المختارة، أنثاك القادمة، ظل البحر يغازلها ويرسل لها الهدايا يمنحها الغناء ويرسل مع الصيادين بوجوههم التي تحمل حزنا كنهه الأصداف واللؤلؤ الذي جاء به من بعيد هدية لجيدها.
البحر الأحمر ظل فترة يمني نفسه باللقاء بعروسته لكن قلقا وشكا وحزنا ساوره سنة بعد سنة، لم يعد يشاهد وجه حبيبته فقد حجبت، رفعت الأبنية في وجهها، أدخلوها إلى الصحراء، إلى كهوف الجبال، أقفلوا عليها الهواء، أصبح البحر الأحمر يصرخ بموجاته العالية لكنها كانت تصطدم بحجارة قاسية في محاولة أن يرتفع عله يشاهد ولو جزءا من شعرها أو منديلها الذي تغطي به ضحكتها وابتسامتها، ويتذكر كيف كانت تغسل جدائلها، الآن لا يرى شيئا، لا يرى الشمس التي تغيب إلا في زجاج النوافذ العالية، حتى في الصباح الباكر حيث كان يرقب شروق شمس لم يعد يشاهدها.
البحر الأحمر هاج، ارتفع موجه، وتعالى سحبا سوداء عن حبيبة قلبه جده التي أسدلوا عليها النوافذ والعباءات، أعيدوا جدة للبحر مرة أخرى، وعندها سندرك أنها.. شدة وتزول.