ساحتنا تعج بالقضايا الساخنة؛ من تلك التي يضع تناولها بجدية ابتسامة تعجب ساخر على وجوه الآخرين؛ مثل قضايا المسيار والمسفار وضرب الزوجة؛ إلى تلبس الجن للإنس، والاقتران بهم، بل وإجبارهم على الاختلاس والسرقة وغسيل الأموال؛ إلى جدل الصحويين والليبراليين والإسلاميين والحداثيين؛ إلى جدل ماذا نفعل بالمرتدين عن تشددهم إلى الوسطية؟ إلى قضايا تحديد تفاصيل المظهر الإسلامي للرجل والمرأة، من قصر ثوبه إلى سعة عباءتها، وتفاصيل الحجاب والنقاب؛ إلى قضايا فتنة عين المرأة وخروجها من جدران المنزل إلى الأسواق وشرائها ملابسها الداخلية من رجل وعملها كاشيرة أم لا وسواقتها السيارة؛ إلى ارتفاع ضحايا الحوادث المرورية إلى الشكوى من نظام ساهر؛ إلى التساؤل عن فائض الميزانية؛ إلى التباس المفترضات القومية بالضرورات المحلية؛ إلى حدود فلسطين والنفق الواصل والجدار الفاصل.
قضايانا المهمة كما أراها ليست كلها سياسية، كما يظن البعض، أو أدبية كما يرى البعض الآخر، ولا هي كلها جدل مطبوخ حول هويتنا وطنية أو مذهبية، ولا مصداقية الفتاوى، ولا علاقات عولمية ولا قومية ولا محلية خالصة. هي خليط من كل هذه الروافد تصب في تكوين معرفة الفرد وعلمه ورأيه وبالتالي خياراته لانتمائه الفكري قبل أي انتماء آخر.
وهذا يطرح قضية أهم من كل القضايا: هي قضية الأمن الفكري..
برأيي أن دعامة الأمن الفكري واتضاح الرؤية هي في الأمن الإعلامي!!
في الغرب حيث التعددية سمة الثقافة المجتمعية الشائعة، تركز وسائل الإعلام عامة على الجانب الإخباري - وإن اتهمت بخلطه بشيء من توجيه الرأي العام بصورة غير مباشرة خاصة في ما يتعلق بالسياسات والمشاركات في ما يحدث خارج الحدود - وتترك مسألة تذوق الأدب والفن واختيار الدين والمذهب خيارا شخصيا.
في الشرق يظل الإعلام يتمسك بمظهر المسؤول عن تفاصيل الإخبار، ولكن تظل مصداقيته مجروحة ومشكوك فيها وما ينقله من تفاصيل أو يخفيه يجعله في رأي الناس مصدرا غير موثوق به فيظل التعليق المتشكك بـ»كلام جرايد» ساريا حول أي خبر. ولا شك أن متابعة العالم في القارات البعيدة من آسيا لإفريقيا مرورا بالشرق الأوسط للبي بي سي ومونت كارلو سابقا والسي إن إن لاحقا يؤكد هذه الملاحظة.
المجتمعات تمارس ثقافة التعايش مع المتناقضات وتلقين المثاليات وممارسة الأعراف والتقاليد ومحاولة القفز فوق القوانين المفروضة رسميا.
وحتى وقت قريب، كان يتساوى في تجاوز القوانين الداخلية التناقض بين المثاليات المعلنة والتصرف الخاص والثقة بمصادر الإعلام الخارجي، المواطن الشرقي والمسؤول. اليوم بعد القاعدة وتفجير أبراج نيويورك تسود علاقة التصديق والثقة بعض الشك مبنيا على نظرية المؤامرة و»من المستفيد من تجريمنا» و»الموساد أقدر». وأعترف أنني أشك حتى في الويكيليكس والغرض من نشرها بتفاصيلها السخيفة إلا في ما يتعلق بنا.
نقطة ضعف أخيل عندنا هي ضعف الأمن الفكري. وإعلامنا غير ماهر في ردم الفجوة وبناء الوعي العام للإيمان بالانتماء العام. ولذلك يمكن أن يضحك علينا بتسريبات تثبت تجاوزات المسؤول أو إثباتات لترصد جار أو شقيق.
في الشرق تختلط الأمور بين الإعلام بصيغته الرسمية ممثلا للرأي الرسمي، وصيغته المهنية بصفته إخبارا بالوقائع والمستجدات داخليا وخارجيا وبين تحميله مسؤولية ريادة التغير وتطوير الوعي المجتمعي وذائقة الثقافة المجتمعية كونه يقود مسيرة الثقافة العامة وعليه مسؤولية ريادتها. ولكنها ريادة مع وقف التنفيذ. حيث زمام فرض الوجهة وتفاصيل الممارسات الاجتماعية بين المسموح والممنوع والمسكوت عنه قدرة اختلستها جهات أخرى تحت مظلات تبرير رسمية وغير رسمية لعل أقواها المظلة الكهنوتية التي احتكرت تفسير المفردات والمستجدات والمنزلات وتحديد اللغة المتبادلة الشعبية والمصطلحات. فترفض التعددية ويعلو صوت ثقافة الرأي الواحد وتنحدر المثالية إلى مجرد عنوان تصنيفي لا يفرض الممارسة الفردية.
وهذا يقودنا إلى خطورة ضمان المحافظة على الأمن بكل أشكاله.
الأمن المعلوماتي؛ الذي يستقيه المسؤول وصانع القرار من مصادر خارجية يثق بها وبإمكانها أن تغدر به وتقدم له معلومات غير صحيحة تساعدها في تسيير قرارته لصالحها. كما حدث مع صدام حسين، فوقع في فخ حرب الخليج حتى أودوا به. هنا يتطلب أن يكون جهاز الاستخبارات قادرا على تمحيص أي معلومة تأتيه من مصدر خارجي والتحقق من مصداقيتها رغم ما تأتي به من إثباتات.
وحين نرى ما يحدث في السودان من تقسيم إلى دولتين، وما يحدث في مصر من استفزازات هدفها إثارة ويلات الطائفية والنعرات الدينية.. لندع لهم بأن يتوصلوا إلى حلول ترضيهم وتبقي أوطانهم، ولنتعظ ألا نسمح بمثل هذا أن يحدث في أراضينا.. وفيها للمترصدين أغراض أهم.