الجزيرة - الرياض :
دعا معالي مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الأستاذ الدكتور سليمان بن عبد الله أبا الخيل عبر خطبة الجمعة التي ألقاها في جامع إسكان طلاب الجامعة في يوم الجمعة الماضية إلى التحلي بحُسْن الخلق الذي هو من الدين الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - وطبّقه عملياً في سيرته وحياته. وافتتح معاليه خطبته بقوله: «إن هذا الدين جاء بكل خير، ونهى عن كل شر، ومن أفضل وأتم وأكمل ما جاء به الإيمان، الإيمان بالله - عز وجل -. وإن من دواعم الإيمان وشواهده ومعالمه حُسْن الخلق». واستطرد إلى تفسير قوله تعالى {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، مبيناً معالم هذه الآية وحقائقها، وأن حسن الخلق والتعامل الطيب مبدأ شرعي جاءت نصوصه وحقائقه ومقاصده في كتاب الله وسُنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ لذلك فإن كل آية في كتاب الله الكريم جاءت تحث على الخلق الطيب، وعلى فعل الأوامر واجتناب النواهي، وهذا هو خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أنموذجاً حياً ونبراساً مضيئاً وقدوة للعالمين.
وأرجع معاليه تراجع أخلاق بعض المسلمين إلى أمر مهم، هو أنه كلما ابتعد الإنسان أو المجتمع عن شرع الله نقص في قلبه وفي عقله وفي فكره وفي جسده تحقيق مطالب الإيمان.
وتطرّق إلى تطبيق عملي ومعيار مهم من معايير حسن الخلق، وهو السلام، فقال: «إن المتأمل في حال بعضنا يرى أن زميله أو أخاه المسلم يمر بين يديه أو من جنبه فلا يسلم عليه، بل والأبعد من هذا والأكثر ضرراً وخطراً أن القادم يسلم على الجالس أو يسلم على من يمر من جواره فلا يرد عليه السلام.. الله أكبر.. أين خلق المسلم؟ أين ما يبعثه على التعاون على البر والتقوى وعلى إشاعة كل ما يؤلف القلوب ويجمعها ويجعله قريباً حبيباً محبوباً إلى قلوب الناس جميعاً؟». ثم تحول إلى إيراد مجموعة من الأحاديث النبوية التي تدل على أهمية حسن الخلق وأنه من مبادئ دين الإسلام العظيمة، ومنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً».. مَنْ هم هؤلاء؟ هم الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون. وحديث أشج عبد القيس الذي قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله. قال ما هما؟ قال الحِلْم والأناة». وختم خطبته بالدعاء للمسلمين بالخير والسداد، ولولاة الأمور بالتوفيق والصلاح والعز والرفعة، ولخادم الحرمين الشريفين بالعودة إلى أرض الوطن سالماً غانماً معافى.
وبعد أن أم المصلين فتح معاليه لقاءً بأبنائه الطلاب، ميزه التواضع والتحبب والصراحة والشفافية التي عُرف بها على الدوام، وافتتحه بتوجيه بعض الأسئلة حول موضوع الخطبة وما طُرح فيها، التي تسابق الطلاب للمشاركة الفاعلة في الإجابة عنها حرصاً منهم على المشاركة الإيجابية البنّاءة في هذا اللقاء. وكانت هناك أسئلة علمية مركزة، استحق من أجاب عن كل سؤال منها واحدة من الجوائز النقدية الإحدى عشرة التي رصدها معاليه من حسابه الخاص تشجيعاً لأبنائه الطلاب الذين ضربوا أروع المثل في التفاعل والحرص على الاستفادة وإظهار البهجة والسرور عند تلقي العلم من أهله المعروفين، التي زاد منها تلطف معاليه مع أحد صغار المصلين عندما شاهده في الصف الأول وناداه وكافأه بجائزة نقدية، وقال له: «هذه مكافأة لأنك صليت في الصف الأول».
ثم فتح المجال للطلاب ليطرحوا استفساراتهم وأسئلتهم التي أجاب عنها بإجابات شافية ومقنعة، ومنها استفسار يتعلق بخدمة شبكة الإنترنت في سكن الطلاب؛ حيث وعد معاليه بتقديم الخدمة بعد الانتهاء من الدراسة التي يجري العمل عليها ووضع الضوابط اللازمة، موجِّهاً أبناءه الطلاب إلى ضرورة الاستفادة من هذه الخدمة بما يعود عليهم بالنفع، وأن يتجنبوا استخدامها فيما يضرهم دينياً وفكرياً ومنهجياً وعلمياً.
وعندما سُئِل معاليه عن طاعة ولاة الأمر أفاض في الجواب، وقال - حفظه الله -: الله - عز وجل - يقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّه وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}، وأولو الأمر هنا قيل هم الحكام والأمراء فقط، وقيل هم الحكام والأمراء والعلماء، والرسول - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه قال: «من أطاع أميري فقد أطاعني، ومن أطاعني فقد أطاع الله تعالى، ومن عصى أميري فقد عصاني، ومن عصاني فقد عصى الله تعالى»، وقال: «اسمعوا وأطيعوا ولو تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة»، بل إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال ما هو أبلغ وأوضح من ذلك وأعمق مدلولاً وأثراً كما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من جاءكم وأمركم جميعاً على رجل واحد يريد أن يشق عصا اجتماعكم فاضربوا عنقه كائناً من كان» وفي رواية «فاقتلوه». وهذا أيضاً ما يجب للعلماء من الاحترام والتقدير والإجلال، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: «العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر». والعلماء للناس كالجبال يرسونهم ويثبتونهم ويبينون لهم الحق ويدلونهم إلى الهدى والصواب والفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة انطلاقاً من مبادئ الشريعة وأحكامها. ولنعلم أن هناك أمراً خطيراً قد يقع فيه بعض الناس، وخصوصاً طلبة العلم، وهو الغيبة لولاة الأمر وللعلماء، وهذا أمر خطير وفتنة وشر.
ثم سُئل عن خواطره وذكرياته مع شيخه العلامة ابن عثيمين - رحمه الله - فذكر بعض المواقف التي تدل على صفة حسن الخلق، ووعد بمحاضرة لأبنائه الطلاب في هذا الشأن.
ومن أهم ما طرح على معالي الشيخ - حفظه الله - سؤال عن كيفية اتقاء الشبهات والأفكار المنحرفة، وقد أحب بأن يشاركه أبناؤه الطلاب في الإجابة عن هذا السؤال، فطلب منهم ذكر حديث حذيفة بن اليمان في هذا الموضوع، فقام أحدهم وتلا الحديث على مسامع الجميع، وفيه أن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشر مخافة أن يدركه، ولما أخبره سأله عن العمل فقال له - صلى الله عليه وسلم -: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، ولما انتهى الطالب كرمه معاليه بجائزة نقدية مقدارها ألف ريال، ثم علّق على الحديث بقوله: هكذا نستطيع أن ندفع الشبه والفتن، ونقف منها موقفاً حازماً صارماً جازماً عازماً وفق قواعد الشريعة ونصوصها، وهي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، فلزوم جماعة المسلمين وإمامهم هو العاصم من الفتن والمبعد عن الشبهات والشهوات وكل الانحرافات؛ ولذلك قال الإمام النووي في ترجمته للأحاديث الواردة في هذا الحكم والدالة عليه دلالة قاطعة: (باب لزوم جماعة المسلمين في حال ظهور الفتن وفي كل حال وحرمة الخروج عن الطاعة ومفارقة الجماعة)، وساق أحاديث متنوعة ومتعددة، والله - عز وجل - يقول {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنت أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها..}. واعتصموا بحبل الله، وحبل الله هنا هو الجماعة، وقيل القرآن، ولما ساق الإمام القرطبي قول من قال إن حبل الله هو الجماعة ومن قال إن حبل الله هو القرآن قال «وكلها معان مؤتلفة متفقة؛ لأن القرآن يدعو إلى الألفة وينهى عن الفرقة فالجماعة منجاة والفرقة مهلكة».
ومما قال معاليه: وثبت في الحديث الصحيح المخرج عند الإمام أحمد ومالك وغيرهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إن الله يحب لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً، يحب لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم، وأن تلزموا جماعة المسلمين، ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال». يقول الإمام ابن تيمية - رحمه الله - إن هذا الحديث اشتمل على قواعد الدين وأسسه ومصالحه، فاشتمل على حقوق الله وعلى حقوق العبيد وما تنتظم به أمور الدنيا والآخرة، فالنجاة والفلاح والسعادة للمؤمنين والمسلمين في لزوم جماعة المسلمين وإمامهم. وأضاف قائلاً: ولذلك ثبت في الصحيح المخرج عند ابن أبي عاصم وأبي داود وغيرهما من حديث معاوية بن أبي سفيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعني الأهواء - كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة، وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكَلَبُ بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله»، وفي الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد عن تميم بن أوس الداري قال: خطب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بالمسلمين لما تطاول الناس في البناء فقال «يا معشر العريب! الأرض الأرض! إنه لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة، فمن سوَّده قومه على الفقه كان حياة له ولهم، ومن سوَّده قومه على غير فقه كان هلاكاً له ولهم»، وليس هناك أعظم من هذه النصوص وأبلغ من هذه الشواهد في وجوب لزوم جماعة المسلمين وإمامهم، والتحذير من كل جماعة أو فرقة أو فكر أو هوى منحرف متطرف أو سلوك جارف يعمل على إذابة مبادئ الدين، ومن هنا جاء التحذير النبوي الشافي الكافي الذي فيه العلاج الناجع النافع «دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها». قلتُ يا رسول الله صفهم لنا. قال: «هم من بني جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا».. فإذا رأيتم أصحاب الألسنة المنحرفة تقدّم أمورها بعبارات براقة وبجُمَل رنانة وبأساليب مشوقة تدغدغ العواطف العواصف وتثير الغِيََرَ الفائرة فاحذروهم فاحذروهم فاحذروهم؛ لأنهم هم الشياطين الذين حذر منهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم الدعاة الذين يقفون على أبواب جهنم.
بعد ذلك طرح طفل صغير تساؤلاً ونقله معاليه للحاضرين فقال: كيف نحب الوطن؟ وطلب الإجابة عنه فتعددت عبارات الطلاب في التعبير عن حب الوطن، وشاركوا بمشاركات جميلة بديعة لاقت استحسان الحضور واستحسان معالي الشيخ، الذي كان يكرّم كل من يتميز في جوابه بمكافأة مالية مباشرة، ثم علق على مشاركة أحد الطلاب عندما قال إن حب الوطن من الإيمان، وقال: إن الإمام السخاوي في كتابه المقاصد الحسنة قال: «روي حب الوطن من الإيمان، وهذا لا يثبت لكن معناه صحيح» ثم قال: أذكر أثراً يغني عنه القول والنظر ويجعل العين من الدمع تنهمر، وهو أن أصيلاً الغفاري لما قدم المدينة من مكة قبل أن يضرب الحجاب قالت له عائشة رضي الله عنها كيف تركت مكة؟ قال تركتها وقد اخضرَّ سلمها وتناثرت بطحاؤها وتنامى شجرها. فسمعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ويحك أصيل دع القلوب تقر». وفي رواية: «لا تحزنّا أصيل دع القلوب تقر».
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - رغم أن قومه أخرجوه، وكانت بلاد كفر، إلا أن قلبه كان متعلقاً بها؛ لأنها وطنه، ولأنها أيضاً مهوى أفئدة المسلمين وقبلتهم، ونحن نعرف أن الكفار يحبون أوطانهم ويدافعون عنها بأموالهم وأنفسهم وكل ما يستطيعون، فما بالكم بمثل هذا الوطن بلاد التوحيد.. قبلة المسلمين.. بلاد الحرمين، أليس حبه يجب أن يكون أعمق والدفاع عنه باللسان والسنان أوجب؟ بلى والله، هذا هو حب الوطن.
ثم كرّم معاليه الطلاب المميزين في حفظ كتاب الله - عز وجل - في حلقات جامع الإسكان، كما كرّم المتميزين في حفظ المتون العلمية، والطلاب المحافظين على صلاة الجماعة.