حتى الدورة «العاشرة» من دورات «كأس الخليج».. كان انعقاد الدورة يجري في الشهر الأول من شهور الربيع (شهر مارس من كل عامين) ب»التناوب» بين دول المنظومة الخليجية الست، التي أضيف إليها «العراق» مؤخراً..
ثم انسحب منها في ذات الدورة، ليختل هذا التوقيت (البينالي) المنتظم.. بعد الغزو العراقي ل «الكويت» في صيف عام الدورة العاشرة نفسها (1990م)!! وهو أمر كان يستحق التأمل فيه.. في حينه، وربما «الربط» بينه وبين «الغزو» العراقي المتهور وغير المحسوب العواقب.. الذي تلاه، ثم تحول توقيت الدورة بعد ذلك إلى شهور الخريف مرات.. فشهور الشتاء مرات أخرى، كما حدث في الثلاث أو الأربع دورات الأخيرة.. ليعود مع «خليجي عشرين» إلى شهور الخريف ثانية.. وإلى شهر «نوفمبر» تحديداً، ربما مصادفة.. وربّما بفعل الذكاء السياسي ل «القيادة اليمنية» أو ل «اتحاد الكرة اليمني».. حتى يتحقق لليمن الجمع في وقت واحد بين «مناسبتين» عزيزتين عليه، وعظيمتين عنده.. هما: استضافة «خليجي عشرين» للمرة الأولى في «عدن» العاصمة الاقتصادية ل «دولة الوحدة»، والاحتفال ب «ذكرى الجلاء» عن عدن.. ومرور ثلاثة وأربعين عاماً على مغادرة آخر جنود الاحتلال البريطاني لها في الثلاثين من نوفمبر من عام 1967م.
على أية حال.. وأياً كانت «الأسباب» أو «الدواعي» لاختيار هذه الفترة الزمنية تحديداً بين الثاني والعشرين من شهر «نوفمبر» إلى الخامس من شهر «ديسمبر».. لانعقاد الدورة فقد كان «الاختيار» ذكياً رائعاً في الحالين. ليأتي (الثلاثون) من نوفمبر وهو يوم ذكرى الجلاء البريطاني عن «عدن».. وسط أيام «الدورة» أو بعد مرور ثمانية أيام -على وجه التحديد- من انطلاقتها «المذهلة» في نجاحها.. يمنياً، و»المبهرة» في نجاحها عربياً.. وإلى حد عدم التصديق -أحياناً- بأن ما جرى من فعالياتها الرياضية والثقافية والفنية إنما كان يجري فوق أرض اليمن وعلى تراب عاصمتها الاقتصادية الساحلية «عدن»، لولا النقل التلفزيوني المكثف الذي شاركت فيه معظم الفضائيات العربية.. حتى جعلت من «اليمن» عموماً، و»عدن» خصوصاً.. في بؤرة المشاهدة اليومية لدى جماهير الأمة العربية العاشقة لكرة القدم.. حيثما هي.
مع قدوم ذلك اليوم (الثلاثين من نوفمبر).. وفي مسائه.. ووسط أفراحه الغامرة، كان الرئيس اليمني.. يلقي خطابه المتوقع في «ذكرى الجلاء»، الذي قدر لي متابعته من جدة.. عبر الفضائية العدنية، فآراه سعيداً مبتهجاً وهو يجدد فرحته وفرحة اليمنيين ب «ذكرى» استردادهم للؤلؤة مدن الشواطئ والبحار الآسيوية «عدن» من فم الأسد البريطاني.. محيياً قوافل الشهداء من جبال «صنعاء» إلى جبال «ردفان» الذين دفعوا بأرواحهم ودمائهم جيلاً بعد جيل ثمناً لهذا اليوم، دون أن يغريه نجاح الدورة، وقد هنأ به في مستهل خطابه.. لأن يعلن شماتته ب «المتشككين» في انعقادها أصلاً.. فضلاً عن نجاحها، أو أن يقول لهم كما تردد في بعض الصحف اليمنية: موتوا بغيظكم (!!)، بل وكرس جزءاً كبيراً من خطابه.. لإقناع أعضاء (اللقاء المشترك) المعبر عن تكتل أحزاب المعارضة للدخول في الانتخابات البرلمانية في شهر إبريل من العام القادم: ف «من يرغب المشاركة.. يستطيع، ومن لا يرغب.. يستطيع، وفي كل الأحوال سنمضي على هذه الآلية الديمقراطية».. كما أشارت صحيفة «اليمن تايم» الناطقة بالإنجليزية.
كان خطاب الرئيس هادئاً موضوعياً مستبشراً.. بل ونبيلاً في ترفعه عن الاستخفاف ب(المعارضة)، كما في ترفعه عن الشماتة بها أو تهديدها بعد تأجيل انتخابات 2009م البرلمانية.. لعامين، وقيام «الحكومة» بتشكيل لجنة الحوار الوطني لبحث ملف الانتخابات كاملاً.. ثم رفضها القبول بصيغة «حزب المؤتمر» الحاكم في تشكيل «المفوضية العليا للانتخابات» من الحزب الحاكم والمستقلين بالتساوي. مضافاً إليهم الحزب الناصري ممثلاً عن «لجنة الحوار الوطني».. ليقوم الرئيس في خطابه هذا بخطوة تصالحية مع المعارضة تحسب له ولقيادته وزعامته المستحقة لليمن الواحد دون شك، عندما أعلن ب «أن اللجنة الانتخابية في المفوضية العليا للانتخابات والاستفتاء ستكون من القضاة وليس من ممثلين عن الأحزاب السياسية».. ف»الناس ولدتهم أمهاتهم أحراراً وليسوا مسيسين أو سياسيين»، وهو منطق سياسي عقلاني حصيف.. يختلف بالتأكيد عن منطق «الديمقراطية» التي لها «أنياب»، الذي كان يردده الرئيس السادات مزهواً في ردهات مجلس الشعب -أو البرلمان- المصري على أيامه..!!
ف «اليمن» بداية ونهاية: بحضارته وموقعه وملايينه الطموحة وتاريخه النضالي الشاق.. يستحق هذه الخطوة التصالحية، وما هو أكبر منها لإزالة بقايا الاحتقان السياسي.. التي ما تزال تنفخ في رماده قلة قليلة غير ذات شأن على أرض الواقع، إلا أنها تملك بعض المال.. وبعض مكبرات الصوت التي تلعلع بها في الآفاق..!!
في اليوم الثاني من وصولي إلى «عدن».. كان إلحاحي يزداد على أخي الأستاذ وليد لترتيب «موعدين» لي مع كل من: الزميل الأستاذ أحمد محمد الحبيشي (رئيس مجلس إدارة ورئيس تحرير صحيفة 14 أكتوبر)، والدكتور عدنان عمر الجفري.. محافظ محافظة عدن، ورئيس مجلسها المحلي، أو أي منهما، فاستمهلني إلى ما بعد الظهر حتى يبذل آخر محاولاته.. نظراً لوجود الأول في «صنعاء»، وانشغال الثاني بمتابعته وصول الجماهير السعودية والكويتية الزاحفة والقادمة جواً وبراً لمشاهدة «مباراة الختام» بين المنتخبين السعودي والكويتي (يوم غد.. الأحد)، والاطئمنان عليها وعلى إيوائها.. إلى جانب متابعة الفعاليات الفنية التي ستشهدها «عدن» خلال اليومين الأخيرين من عمر الدورة، والتي كان أولها الحفل الساهر الكبير في مساء ذلك اليوم، والذي فاجأتني الدعوة لحضوره منذ الصباح الباكر، وهو ما أكد لي بأن مباراة تحديد المركزين (الثالث والرابع)، وهو عرف خليجي جديد لم تعرفه الدورات السابقة كما علمت من خبرائها.. قد ألغيت، لأنشغل في ذلك الصباح في بهو الفندق الذي كان مليئاً ومزدحماً بعشرات العشرات من الإعلاميين العرب من كل الأقطار.. بلقاءات ودردشات مع شباب الإعلام السعودي الذي أسعدني قدومهم من صحف الشرق الأوسط والجزيرة وعكاظ والرياض والوطن والمدينة.. لتغطية أحداث الدورة، إلى جانب زعيم «إذاعة البرنامج الثاني من جدة» الأستاذ فريد مخلص صاحب برنامج «أبواب» الإذاعي الشهير.. الذي امتد به لطفه، إلى حد تقديمي لمحرر ملحق «الجمهورية الرياضي» اليمني الشاب «ماجد الطياشي» باعتباري (عميد الإعلام الرياضي السعودي)!! فورطني في أمر لم أدعيه ولم أسع إليه طوال حياتي الصحفية أو القلمية.. ولكنه كرم عواطفه الزائد -دون شك-، لكن كرمه هذا.. تحول على يد محرر ملحق «الجمهورية الرياضي».. إلى «خبر» بالنسبة له، وإلى «فضيحة» بالنسبة لي.. عندما عنون خبراً عني في اليوم التالي بذات «المسمى».. لأضرب كفاً بكف، دون أن أستطيع قول أو فعل أي شيء.. إلا أن أفوض أمري إلى الله..!
مع مضي ساعات النهار وتناول وجبة غداء يمنية خرافية في اسمها (المخمود) ومذاقها المحمود بأحد مطاعم «ساحة العروض» في قلب مدينة «عدن».. بدا في أعقابها بأن أخي وليد لم يتمكن من تحقيق أياً من الموعدين، ولكنه اقترح.. أن يقوم بتعريفي بمدير المركز الإعلامي الذي يحتل الطابق الأول من فندق ميركيوري.. تقريباً: الدكتور أحمد الحماطي.. (فهو وكيل وزارة الإعلام لشئون الإذاعة والتلفزيون، وستجد عنده الكثير من الإجابات.. على أسئلتك).
فرحبت ب «اقتراحه».. لأجد نفسي إلى جوار الدكتور الحماطي بعد دقائق، وقد تقاسمنا كنبة طويلة واحدة، ولكن الأجمل من الجلسة على كنبة واحدة.. كان هو شخص الدكتور الحماطي نفسه، الذي بدا منذ لحظات تعرفي الأولى به.. «عربياً» ربما بأكثر منه «يمني». في مظهره.. كما في حديثه.. كما في تناوله للشئون العربية، ربما كان ذلك بفعل الإذاعات العربية التي يستمع إليها والتلفزيونات العربية التي يتابعها بحكم موقعه، ومع ذلك تجنبنا الشأن العربي.. إلى الشأن اليمني، بعد هذا النجاح الهائل الذي شهدته الدورة وشهدته «عدن»، لأقول له: غداً.. ستغادر كل هذه الآلاف اليمنية والعربية عدن، وتعود المدينة.. إلى سابق عهدها، وقد غادرها هذا الرواج الذي شهدته.. فكيف السبيل إلى إيجاد بدائل تستفيد من هذه البنية التي تم استحداثها..؟.
قال: لقد كنت أفكر في نفس الاتجاه.. فدعوت اثني عشر شخصية أكاديمية وفنية وأدبية وسياحية للقاءات إذاعية وتلفزيونية للبحث عن «بدائل» أو إضافات تحشد الناس في زيارات متتالية.
قلت: ربما يكون تقديم ما يسمى ب «البَكِج السياحي» لزيارة عدن لثلاثة أو أربعة أيام.. للدول الخليجية المجاورة أو الأوروبية إذا أحسن تقديمه اعتماداً على موقع «عدن» الإستراتيجي الذي تتلاقى عنده بحار ثلاثة: الأحمر وخليج عدن وبحر العرب.. خير معين على تحقيق الهدف.
قال: نعم.. وقد بدأنا هذا الطريق، لأودعه متعجلاً.. حتى أنال قسطاً من الراحة استعداداً ل «الحفل» الساهر الكبير.
في الطريق إلى ملعب أو «إستاد» (حقات) على شاطئ «البحر» حيث يقام «الحفل» الذي سبقته حملة إخبارية في الصحافة والإذاعة، وإعلانية في القنوات التلفزيونية وما أكثرها.. توجست خيفة من احتمال وجود تجمهر أو ازدحام حول (الإستاد) من «الطفيليين» ومن في حكمهم كالعادة العربية الرذيلة في تجمهر الناس حول ما لا علاقة لهم به.. من الأماكن أو الأحداث، ولكنني فوجئت.. وربما كانت تلك آخر مفاجآت شهادتي عن «الدورة».. بأن الطريق بمستوى ازدحامه اليومي العادي، وأن لا تجمهر ملفت حول (الإستاد).. وأن الدخول إليه من بوابته المخصصة للضيوف أسهل وأسرع من الدخول إلى إدارة جوازات جدة حتى في أيام (البصارة) كما يقولون!!
كان (الإستاد) نظيفاً وجميلاً، والهواء بحرياً.. عذباً رقيقاً، وأنوار (الإستاد) تتلألأ جميعها.. وقد اختار منظمو الحفل طرف منتصف (الإستاد) المقابل لجمهور الدرجة الأولى، ليضعوا عليها منصة المسرح، وخلفها ساتر حريري أبيض يقوم على جانبيه علما الجمهورية اليمنية.. حيث اصطف العازفون على يمين المنصة و»الإيقاعيون» على يسارها.. بينما تُرك منتصف المنصة للمغنين والمغنيات الذين أبدعوا في غنائهم عن اليمن وأرضه وشعبه ووحدته، وعن «الدورة».. وضيوفها، وعن عدن وليلها وبحارها وتلك المصابيح التي تملأ سماءها، لأغادر الحفل مبكراً على غير رغبة مني.. استعداداً ليوم غد: يوم البطولة «الأخير».. في (إستاد 22 مايو)، والذي كان وكما توقعت.. طويلاً بأكثر مما يجب، فقد ذهبنا إليه في الثانية والنصف ظهراً.. خوفاً من الزحام كما قال المنظمون (وهم على حق)، وليس لدي ما أقوله أو أشهد به عن ذلك اليوم الأخير والجميل بل والفريد من أيام البطولة، فقد تابع العالم كله عبر القنوات الأرضية والفضائيات التلفزيونية.. تفاصيل تفاصيل ما جرى في ذلك اليوم البهيج من أيام اليمن عامة ومدينة «عدن» خاصة.
لقد بدا لي مشهد (الإستاد) آنذاك.. بجماهيره الحاشدة، وشاشته الناقلة لما يجري، وإذاعته الداخلية، وموسيقى حرسه الجمهوري وهي تملأ أرجاء المكان بأناشيدها الوطنية.. وكأنه ليس مشهد حفل ختام لتسليم كأس البطولة فيه ل»البطل».. بل حفل تخرج ل «الدورة» نفسها تسلم فيه «الشهادة» لمنظمها بتوقيع مائة ألف مشاهد ممن كانوا في داخل (الإستاد) وخارجه.