للفساد صور عديدة، ولا يختلف اثنان على أنها كلها قبيحة، وأنها كلها تتنافي مع الشرائع الدينية والقيم الإنسانية والمبادئ والأخلاق، لكنّ المولعين بالفساد المحبين له لا يبالون بقبحه، ولا بتعارضه مع القيم والمبادئ، والدليل إصرار كل الفاسدين وجرأتهم وهرولتهم إلى اغتنام أي فرصة تسنح لهم، تحت أقنعة كثيرة الألوان، متنوعة الأشكال، غير مبالين بالأنظمة، ولا آبهين بالمراقبة، كل همهم استحداث الحيل وتنويعها، وتسويغ الغايات التي يجهدون في بلوغها، رافعين شعارهم المعروف (الغاية تبرر الوسيلة) مهما كانت المحاذير والأثمان.
وعلى الرغم من سطوة الفساد والفاسدين، وقذارة أيديهم، إلا أن أصحاب الأيدي البيضاء النظيفة المخلصة تبقى أكثر منهم سطوة وسلطة، وهم لن يستسلموا لمقولة: «العين بصيرة واليد قصيرة»؛ فأيديهم طويلة قادرة على لطم كل من يسوغ الفساد ويستمرئه، فهناك بصيص نور، وبارقة أمل سوف تحيي جذوة الشجاعة في الإفصاح عن الفساد والفاسدين وتعريتهم، ولاسيما بعد أن تفاعل الناس واستبشروا وفرحوا وتفاءلوا بالحملة الإعلامية على صور الفساد الإداري، والفساد المالي المتمثل في التفريط في إنفاق المال العام حسب أصوله، وتوجيهه نحو الوجهة التي خُصّص لها، والأغراض التي يفترض أن يخدمها، ولقيت التوجيهات الصريحة الحازمة، والتوجهات الصادقة من العامة والخاصة نحو محاربة الفساد، واستئصال بؤره، ومحاسبة كل من يتجرأ على التلاعب بالمال العام، ترحيباً بالغاً، وتأييداً واسعاً، وهذا انعكاس واضح، وترجمة صريحة، للامتعاض الشديد الذي يشعر به كل غيور من الجرأة على الفساد بكل صوره وعلى سرقة المال العام بصفة خاصة، والاستئثار به من قبل أشخاص تجردت ضمائرهم من مخافة الله ومراقبته.
معلوم أن أعداد الفاسدين قليلة، ولكن هناك ممارسات تتم بصور لا يصدقها العقل، منها ما يتم فوق الطاولة، ومنها ما هو تحتها، ممارسات تمرر فيها معاملات الفساد وتسهل لها كل السبل، وباتت رؤية الفاسدين الذين انتفخت جيوبهم وبطونهم، وتضخمت أرصدتهم، وهم في وظائف لا تؤهل مرتباتها إطلاقاً ولا تسوغ حالة الانتفاخ المشوه التي يبدون عليها، بات هذا معلوماً معروفاً، بالأمس كان هذا معدوم المال، وذاك متواضع الحال، وإذا بهذا وذاك بين عشية وضحاها يصبح في مصاف الأغنياء، ومن الذين تذيل أسماؤهم بألقاب لا يستحقونها، وصارت لهم منزلة ومكانة هم أدنى منها منزلة وأقل شأناً، لكنه المال الذي قيل عنه: «لو كان المال عند عنز شيورت»، أي أخذ رأيها في المكان الذي ترغب أن تسرح فيه وترعى.
يُقال: «المال السائب يُعلّم السرقة»، ومن هذه المسلَّمة الكل يعلم يقيناً أن السارق لا يجرؤ على السرقة إلا عندما يجد الأبواب مشرعة، ورقيب السلطة أو الضمير غائباً، ولهذا لا بد من تشديد رقابة السلطة وتعزيزها باعتبارها مما يمكن السيطرة عليه والتحكم فيه؛ فمن مدخلات تشديد رقابة السلطة مراجعة إجراءات ترسية العقود، وكيفية تحديد قيم الكلفة المالية للمشروعات، وفحص العروض، وتدقيق عطاءات العمليات المالية، وفحص الإجراءات التي تتم بها الترسية، ومتابعة المستخلصات الدورية وإنهاؤها، ومراقبة مدد الإنجاز وتواريخها، واعتماد آليات محددة يتعذر اختراقها والتلاعب فيها، وهذا مما يقطع الطريق على محاولات القفز والتقديم والتأخير والتسريب وغيرها من مداخل التسهيل والتمرير.
صحيح أن للمال سطوة وشهوة، لا يملك دحرها وكسر شوكتها والتغلب عليها إلا من حباه الله ضميراً حياً يستشعر مراقبة الله، ويعظم خشيته ومخافته، وصحيح أن النفوس مجبولة على حب المال وتحصيله، والسعي الحثيث في جمعه وبالسبل المتاحة كافة، قال تعالى: {وتحبون المال حُبًّا جَمًّا}، ولكن مع هذا تبقى معايير جمع المال وتحصيله عند العقلاء الأمناء نظيفي الأيدي أقوى من السطوة والشهوة والشهرة، لكن هؤلاء الأمناء يحتاجون إلى مرجعيات تساعدهم على كشف كل صور الفساد مهما كان حجمها وقيمتها، وتعرية الفاسدين مهما بلغت سطوتهم وسلطتهم.
إن تأسيس هيئة تُعنى بتتبع الفساد، يوكل لها مهمة تتبع حالاته، والتحري عنه، وتقصي صوره، تزود بالمعلومات الموثقة ممن يعرف أي ممارسة فساد أو فاسد، سوف يساعد على قطع الطريق على كل من تسول له نفسه الغوص في أتون التعدي على المال العام وسرقته مهما كانت حيل التعدي وصورها وحجمها.
