لم تكن السيدة مزنة صالح اليوسف تعلم شيئا عن النظريات التربوية أو الاجتماعية حين احتضنت أبناء زوجها ووالدتهم، ولكنها فعلت ذلك بدافع فطري، وباعث خلقي لتحقيق هدف سامٍ؛ فكسبت حمدا في الدنيا وأجرا في الآخرة، ودعاء لا ينقطع من أبناء زوجها أو بالأحرى هم أبناؤها.
وقد كانت صاحبة المنشود إحدى ثمرات بيت تسكن فيه ضرتان لم نكتشف إنهما كذلك حتى كبرنا وأدركنا أنه يستوجب الحجاب عن أخوال إخواننا الكبار لأنهم أجانب بحكم الشرع لا المشاعر! فهي وإن كانت لم تلدني ولكنها أشرفت على تربيتي وتذكر بالتحديد تاريخ ميلادي وميلاد إخواني وأخواتي.
وكانت أمنا (مزنة اليوسف) سيدة الموقف بحق حين اقتلعت من قلبها نوازع غيرة الأنثى، واجتثت من فؤادها جذور كراهية الضرة، حتى لتشك إنه حين وزعت تلك الخصلتان على البشرية لم تنل نصيبها ! ربما لأنها كانت في شغل عنه، أو كانت غائبة توزع حلوى الحب على أولئك الأطفال الذين فقدوا والدهم فتذوقوا مرارة اليتم، وأوجعتهم برودة الفقد.
وكانت كاتبة هذه السطور أحدهم، فلم يكن يتعد عمرها الثامنة ويليها أربعة أطفال. بيد أن أمنا مزنة لم تدع تلك الأسرة المكلومة تعبث فيها براثن الشقاء وتقطعها مخالب اليتم وتمزقها أظافر الفقر. بل ركزت أعمدة التكافل ومدت جسور العطاء من خلال دعم أبنائها لانتشال إخوانهم لأبيهم وتوصيلهم إلى بر الأمان وشاطئ الدفء، وكان فيهم الخير الكثير والفضل الوفير.
وحين أكتب عن أمي مزنة فلا أعدُّ ذلك تأبينا أو توديعا لرحيلها، بيد أني أكتب عن تاريخ حافل بالتضحيات وإنكار الذات، وإن كنا صلينا عليها وأودعنا القبر جسدها الطاهر -الذي أرجو أن يكون روضة من رياض الجنة فإن روحها لم تمت! وإلا لماتت الفضيلة والسمو والمكارم بوفاتها؛ فهي إذاً باقية في قلوبنا، شاخصة في أرواحنا، حاضرة في نفوسنا بقدر ما حافظت على أسرتنا متماسكة طيلة سنوات عديدة لا تكاد تفرق بين الإخوة إن كانوا أشقاء أو غير ذلك! فقد نسينا تماما هذا المصطلح، فحلَّت المحبة دون الشقاق وجاء التسامح ليضفي على حياتنا الاستقرار ويشيع جو الألفة. وعندما تفضَّل إخواننا الكبار بتكفلنا ونحن صغار واحتوائنا ونحن شباب لم يحرموا من تقديرنا وعظيم احترامنا الذي جاء بمباركة من والدتنا الصغيرة التي ما فتئت لآخر ساعة جمعتها بأمنا الكبيرة عليهما رحمة الله وهي تقول (نادوا أمكم مزنة تقهوى) فكانت القهوة لا تحلو إلا بوجودهما سويا، ولا أخالك تعجب حين ترى ضرتين يضيق بهما المجلس سويا ولو ساعات!!
وإن كانتا -عليهما رحمة الله- قد غرستا في نفوس أسرتنا الصغيرة ثقافة الحب والاحترام فقد سرت هذه الثقافة في عقول أبنائنا والأحفاد حتى أصبح من يردد (أمي مزنة) يفوق ثلاثمائة شخص أو يزيدون ونصفهم لم تنجبهم ولم تلد آباءهم ولا أمهاتهم !! أما من يحبها فهم أضعاف مضاعفة من هذا العدد، وتلك مكافأة ربانية لسيدة جعلت التضحية هدفها، والاستقرار رؤيتها، والمحبة وسيلتها، فحقق الله هدفها ونجحت رؤيتها حين جزمت أن استقرار أسرتها معقود بالتضحية والصعود فوق المطالب والشحناء والأهواء الشخصية.
ولو دخلت مجلس العزاء وما يكتنفه من ذهول وصدمة وحرقة لما استطعت أن تتبين أبناءها الذين أنجبتهم أو إخوانهم وأخواتهم غير الأشقاء، حيث استطاعت تلك السيدة بعفويتها أن تمزج أرواحهم كما امتزجت أشباههم حتى لا تكاد تصدِّق أنهم بالفعل أبناء رجل واحد وعدة نساء. لأنهم في الواقع من عضلة قلب واحد ونبض عدة بطينات.
ويبقى الأورطي متدفقا كجريان الأنهار نحو البحار يحكي سيرة سيدة كان لها فضل جميل وصنيع بديع. فعليها رحمة الله، وفيها أتقبل العزاء.