في الأمثال العربية من الدِّلالات العميقة ما يدلُّ على وعي كبيرٍ بشؤون الحياة، وإفادة كبيرة من التجارب والمواقف التي مرَّ بها الإنسان العربي في حياته الصحراوية المليئة بالعادات والقيم والصراعات التي كانت سمة بارزة لحياة القبائل العربية.
ولعلَّ مما يميِّز المثل - بصفة عامة - أنه خلاصة مختصرة مركزة لتجارب متراكمة مع مرور الزمن، يستوعبها العقلاء من الناس، ويقدِّمون خلاصتها أمثالاً تسري بين الناس، يستفيد منها أصحاب الوعي والبصيرة، ويغفل عنها أصحاب اللهو واللعب من بين البشر، الذين لا يعرفون إلا أنفسهم بما لها من مطامع وشهوات، ويتنكرون لتجارب من سبقهم ممن خاضوا غمار الحياة قبلهم، وعرفوا حلوها ومرَّها، وخرجوا بتجارب عميقة تنفع من بعدهم.
(لسان من رطب ويد من خشب) مَثَل عربي قديم، سرى على ألسنة الناس بعد أن نطق به رجل حكيم، مَنْ ذلك الرجل يا تُرى؟ وفي أيِّ موقف على لسانه جرى؟ حتى اشتهر بين الناس وسرى؟
يؤسفنا أن المصادر التي ذكرت هذا المثل لم تذكر شيئاً من التفاصيل، كما هو شأنها مع كثير من الأمثال السيَّارة على الألسنة، وإنما اكتفت بشرح معنى هذا المثل، وبيان المواقف التي يَصْلُح أن يُضرب فيها.
ولكنَّ هذا المثل لافت لنظر المتأمِّل - كما نرى- ففي عباراته من اللطف، والوضوح ما يجذب، وفي مقابلته بين صورتين ما يغري بالتأمُّل ويمتع، وفي معناه العميق من العبرة مالا يَخْفى.
حينما قرأت هذا المثل تبادرت إلى ذهني صورٌ واقعية من علاقات عالمنا العربي والإسلامي بالعالم الغربي - في مجالي السياسة والاقتصاد- وتركزت في ذهني مواقف الخداع الكبيرة التي حدثت وما زالت تحدث من قبل دول غربيةٍ كبرى في تعاملها مع عالمنا (الثالث) كما يحلو لهم أن يسموه، وهي مواقف مؤلمة - في مجملها- قائمة على التضليل، واستخدام أساليب الإغراء، والوعود غير الصادقة، والكلمات المعسولة التي لا تتجاوز حلاوتها المكان الذي أطلقت فيه.
تطابق واضح بين معنى هذا المثل العربي الأصيل، وبين ما رأينا ونراه من نماذج التلاعب الغربي - أوروبياً وأمريكياً - بقضايانا ومصائر أوطاننا وشعوبنا، فالمثل يشير إلى من يخادع صاحبه بمعسول الكلام حتى يظهر لسانُه كالرُّطبْ في حلاوته ولذَّته، ولكنه يفاجئ صاحبه بيدٍ متيبِّسة لا حياة فيها ولا حركة، ولا يشعر مَنْ يصافحها أنها يدٌ من لحمٍ ودم، فهي كالخشب اليابس الذي لا روح فيه.
وفي هذين التشبيهين للسان واليد في هذا المثل من جمال التصوير ودقته ما هو معهود في تاريخنا العربي البياني الغني بالإبداع، إلى حدِّ الإشباع.
إنَّ كل تجربة قاسية شديدة المرارة لأمتنا مع (الاستخراب) ودوله المخادعة الظالمة قديماً وحديثاً، تندرج بتطابق عجيب، تحت معنى هذا المثل الذي أنتجته التجارب، وأنضجته الأحداث.
ولو كان لي من أمر تغيير بعض عبارات هذا المثل شيء، لوضعت كلمة (لهب) مكان كلمة (خشب) لأنَّ اليد التي يمدُّها لنا العالم الغربي، يدٌ قاسية ملتهبة، لا تعرف الرحمة والعطف، وإنما تعرف العُنف والقصْف، مع أننا نسمع ألسنتهم تتحدث عن رعاية حقوق الإنسان، والعلاقات الإنسانية، والمصالح المتبادلة، ومساعدة الدول المحتاجة، والنهوض بالأمم (المختلِّفة؟) وتوفير فرص الإنتاج والعمل، وغير ذلك من العبارات ذات البريق الكاذب، والمذاق اللذيد، الذي يتلاشى حينما يصافح المخدوعون منا أيديهم فيجدونها جَذَواتٍ من نيران الطمع، والسيطرة، والاستبداد، والاستكبار.
ولكن المثل العربي يظلُّ في ذروة البلاغة، لأن وصف اليد بالخشب يعني أنها تفقد الحياة والإحساس والتفاعل.
إشارة:
لسانٌ من رطب، ويد من خشب، فوا أسفا على غفلة العَرَبْ!