في الأسبوع الماضي عُقدت ندوة بعنوان: «الشباب وظاهرة العنف»، وهي واحدة من ندوات أربع أعدَّها منتدى الفكر العربي، الذي مقره عمان، عن الشباب. وقد تم إعداد هذه الندوة بالتنسيق مع مكتبة الإسكندرية، ودامت مداولاتها ثلاثة أيام في رحاب تلك المكتبة.
وهذه المكتبة، أو الإنجاز الرائع بناء، العظيمة محتوى وأداء متواصل الثمرات، لم يكلف بناؤها - قبل خمسة عشر عاماً - إلا عشرين ومئتي مليون دولار، كما ذكر من أُسندت إليه مهمة إعطاء فكرة عنها للمشاركين في الندوة. وقلتُ في نفسي - عند سماع ذلك -: تُرى لو كان بناؤها حينذاك في بعض دول مجلس التعاون كم سينفق من خزينة الدولة على بنائها؟
كانت مشاركتي في الندوة المشار إليها هي التي قادتني إلى المجيء إلى الإسكندرية بعد خمسين عاماً من زيارتي الأولى لها عندما كنتُ طالباً من طلبة السنة الأولى في كلية الآداب بجامعة الملك سعود. وهذا الحدث يجعل الذكريات تنهال على خاطري بحيث لا أستطيع غير تذكّرها. كان الحب لمصر وأهلها قد بلغ ذروته في نفسي ونفوس كثير من أبناء جيلي حينذاك، وكان في مقدمة بواعث ذلك الحب أمران: الأول منهما ما تركه في نفوسنا أساتذتنا المصريون الأجلاء من إعجاب وتقدير لعلمهم الذي كان من أبرز سماته تحدثهم باللغة الفصحى - ولا شيء غيرها - خلال إلقائهم الدروس علينا ونحن في المرحلتين المتوسطة والثانوية. أما ثاني الأمرين فكان تألق القيادة المصرية في مؤتمر باندونج وما زامنه وتلاه من انطلاق الفدائيين الفلسطينيين من غزة، التي كانت تحت الإدارة المصرية؛ محاولين زعزعة أركان الكيان الصهيوني المحتل لفلسطين.
وكان هذا الأمر - كما هو معروف - من أسباب تآمر قادة ذلك الكيان الصهيوني مع بريطانيا وفرنسا لارتكاب العدوان الثلاثي على مصر. وكان للصمود المصري شعباً وقيادة أمام ذلك العدوان أثره الكبير في بناء الثقة في النفوس لدى جيل الشباب العربي بالذات. وكنتُ ممن كتب قصائد عن ذلك الصمود. ومن تلك القصائد قصيدة عنوانها: «أغنية لبورسعيد» خاطبتها بالقول:
سطَّرت آيات الصمود فأنت للعليا وشاح
وجعلت آمال الغزاة سدى تبعثرها الرياح
وقصيدة عنوانها: «صمود» مستهلُّها:
طعم المنون من المَذَّلة أعذبُ
والموت من عيش المهانة أطيبُ
وختامها:
عزماتنا لن تستكين وشعبنا
جيش على خوض الحروب مُدرَّب
إن رُمتمُ أن تستبيحوا أرضنا
فالأسد تتأثر للعرين وتغضب
والمارد الجبَّار حطَّم قيده
سيهدُّ أركان العدا ويخرِّب
ثم بلغت مشاعر الثقة لدى الجيل الذي أنتمي إليه أوجها بقيام الوحدة بين مصر وسوريا. وكان مما قلته بمناسبة مرور عام على قيامها قصيدة مستهلها:
أشرقي يا صفحة الخلد ابتساما
قد رضيناك محلاَّ ومقاما
ومنها:
أُمتي زَفت إلى هام العلا
وحدة رَفَّت على القطرين عاما
يخفق النصر على آفاقها
باسم الثغر طروباً مستهاما
نفحات النيل هزَّت بَرَدَى
فمضى يلقي على النيل الخزامى
وكان ختامها مخاطباً الأمة:
ونواة الوحدة الكبرى سناً
في الفضاء الرحب يَفترُّ ابتساما
فارسمي من مجتلاها لوحة
واحملي من دُرِّها الزاهي وساما
والقصائد الثلاث نُشرت العام الماضي ضمن مجموعة عنوانها: (مشاعر في زمن الوهج). وأظن أنه لم يبق لمن هو مثلي عاصر تلك الأيام الباعثة في حينها على التفاؤل بمستقبل مزدان بالنصر، وعاش حتى ليالي الحاضر الحالكة ظلاماً، إلا أن يقول: رحم الله تلك الأيام.
وكان كل ما سبق ذكره - إضافة إلى عوامل إيجابية أخرى - مما جعلني أتوق إلى أن تكون دراستي الجامعية على ضفاف النيل. لكن ذلك لم يتحقق. على أني سافرت إلى مصر عام 1960م، مع إخوة أعزاء. وبعد الإقامة شهراً في القاهرة توجهنا إلى الإسكندرية حيث قضينا أياماً عدة. وكان ذلك هو زيارتي الأولى لذلك الثغر الجميل، كما ذكرتُ سابقاً.
أما بعد:
لقد سافرت على متن الخطوط المصرية من بيروت إلى الإسكندرية عبر مطار القاهرة، وذلك ليلة يوم الأحد من الأسبوع الماضي، وعند الاقتراب من الإسكندرية أعلن قائد الطائرة أن الطقس لا يسمح بالهبوط إلا على مطار برج العرب الصغير. ولما نزلنا في ذلك المطار بعد منتصف ليلة الأحد كان الجميع يتوقعون أن تكون هناك حافلة تقلهم إلى المطار الذي كانت الطائرة ستهبط فيه، لكن ذلك لم يحدث. وكنتُ من السعداء؛ إذ وجدت سيارة أجرة حملتني إلى الفندق القريب جداً من المطار الذي لم تهبط فيه الطائرة، وكانت الطريق إلى الفندق من مطار برج العرب مليئة بالمستنقعات الناتجة عن نزول المطر بغزارة. ولم تصل سيارة الأجرة إلى الفندق إلا بعد ساعة من السير غير المريح. وفي الصباح توالى نزول المطر مصحوباً بريح قوية؛ ما جعل الموقف يتطلب مراعاة المثل الدارج: «حبسك بيتك». على أن من حسن الحظ أن الندوة لم تبدأ إلا صباح يوم الاثنين. وقد افتُتحت تلك الندوة بكلمة لمدير مكتبة الإسكندرية الدكتور إسماعيل سراج الدين، ألقتها نيابة عنه السيدة هاجر الإسلامبولي؛ لأنه كانت لديه - كما قيل - محاضرة في مكان خارج المكتبة، وإن كان في المدينة نفسها. وكان من المفترض أن يلقي كلمة جامعة الدول العربية الدكتور خالد الوحيشي، لكنه هو الآخر لم يستطع الحضور. أما كلمة المشاركين في الندوة فألقتها الشريفة نور بنت علي. وأما الكلمة الأخيرة في الافتتاح فكانت كلمة الأمين العام لمنتدى الفكر العربي الدكتور همام غصيب، وكانت كلمته مسك ختام لغة جميلة وعرضاً جيداً متَّزناً. وما حدث بعد الافتتاح سيكون الحديث عنه في الحلقة القادمة إن شاء الله.