حينما ظهرت فكرة إزالة الحواجز والقيود السياسية والاقتصادية بشكل تام أمام التبادلات التجارية العالمية ظهر مفهوم العولمة الذي يعني تحويل العالم إلى سوق تجارية تنافسية واحدة يستطيع الجميع في شتى بقاع الأرض الدخول فيها والمنافسة من خلالها، وقد صاحب ظهور هذا المفهوم تطور منظمة التجارة العالمية وانهيار
الأرض الدخول فيها والمنافسة من خلالها، وقد صاحب ظهور هذا المفهوم تطور منظمة التجارة العالمية وانهيار الاتحاد السوفييتي؛ الأمر الذي دفع بجمهورياته الصغيرة منها والكبيرة التي نتجت من انهياره إلى المسارعة للدخول بالسوق الدولية والانضمام لمنظمة التجارة، وتخلي الصين عن نظامها الشيوعي السابق في مجال التجارة وتحولها للنظام الرأسمالي.
جميع ما سبق من تطورات سريعة حدثت خلال ربما أقل من ثلاثين عاماً، وتشير إلى أن مصطلح العولمة كان اقتصادياً خالصاً سعى من خلاله الجميع لتكريس مفهوم التجارة الحرة التي تخلو من القيود والحواجز؛ لتسهيل عملية التبادلات التجارية، حتى لترى أن رجل أعمال من أقصى شرق الكرة الأرضية يبيع ويشتري ويزاول تجارته في أقصى غرب الأرض، والعكس صحيح، وهذا ما كان يراد للعولمة أن تقوم به؛ لتساهم في رفع مستوى التجارة ومزاولتها وما يعكسه ذلك من رفاهية للشعوب.
تلا ذلك انفتاح آخر هو الانفتاح الثقافي؛ فأصبح لدينا عولمة تجارية وعولمة أخرى ثقافية من خلال دخول صناعة السينما والفن عبر العولمة الاقتصادية لأسواق العالم كله؛ فأصبحنا نرى الأفلام الأمريكية والهندية والعربية والتركية في أوروبا، والعكس صحيح، فضلاً عن رواج الأقمار الاصطناعية التي انتشرت في الفضاء كانتشار النار في الهشيم؛ حيث يستطيع مواطن في الألاسكا مشاهدة مسلسل مكسيكي، أو مواطن من جنوب إفريقيا مشاهدة فليم روسي أو متابعة قناة أوروبية أو هندية، وأصبح سكان الأرض قاطبة قادرين على متابعة مباريات كرة القدم العالمية أو مشاهدة أحداث بطولة عالمية في نوع من أنواع الرياضة في وقتٍ واحد، وهم بذلك يتشاركون في ردود أفعالهم من فرح أو غضب لما قد تؤول إليه نتيجة مباراة في كرة القدم مثلاً بعد أن كان الجميع منعزلين ولا يستطيعون متابعة المباراة أو الحدث ما لم يشدوا الرحال إلى البلد الذي تُقام فيه أحداث تلك الفعاليات.العولمة سواء الاقتصادية منها أو الثقافية أو ما قد يأتي من أنواع جديدة مستقبلاً قد أثرت سلباً في مشاعر الكثير من البشر في شتى بقاع الدنيا، وتحديداً في الجزء الفقير من الكرة الأرضية، الذي لا يستطيع أفراده بطبيعة الفقر الذي يعيشونه مشاركة غيرهم متعة متابعة الركب في أي فعاليات سواء الرياضية منها أو الثقافية أو العلمية أو التجارية.
العولمة بتناقضها العجيب قد ألقت بظلالها الكئيبة على جزء كبير من الكرة الأرضية، وأنارت الطريق أمام جزء آخر. العولمة قد تركت خلفها من لا يستطيع امتطاء صهوتها، وسارت بسرعة فائقة بعيدة عنهم. العولمة قد أدارت ظهرها لمن لا يملك مقومات التعاطي والتفاعل معها. العولمة قد كشرت عن أنيابها، وستظل هكذا للفقراء من أهل الكرة الأرضية. العولمة قد كشفت الفقير والغني، وتركت خلفها السعيد والشقي.
من كان له الحظ اليسير من سكان الجزء الفقير من العالم أن يلحق بركب العولمة الثقافية المتسارعة، وتمكن من مشاهدة أساليب الحياة المزدهرة والمرفهة التي يعيشها سكان الجزء الغربي من العالم، يكون قد شعر بالفارق الكبير بين ما يعيشه هو وما يعيشه غيره، يكون قد أحس بحجم وكِبَر الفارق بين سكان المنطقة التي يقطنها في العالم وباقي سكان المناطق الأخرى في الكرة الأرضية؛ الأمر الذي سيعرضه بلا شك للإحباط بداية وللاكتئاب في نهاية الأمر؛ فالإنسان العادي سابقاً لم يكن يشهد ما كان يعيشه غيره في بقعة أخرى من العالم ما لم يكن قد سافر وشاهد بنفسه، ومن يستطع السفر للسياحة لا يشعر بحجم الفارق الكبير في المستوى المعيشي؛ باعتبار قدرته على السفر والسياحة، لكن إنسان اليوم الذي لا يملك سوى قوت يومه - إن ملكه - في كثير من بلدان العالم الثالث يعيش ألم وحسرة مشاهدته المستوى المادي العالي الذي يعيشه غيره في العالم.
أليست العولمة متناقضة في عدالتها؟ أليست المسؤولة عن تزايد حالات الاكتئاب في كثير من بلدان العالم الثالث؟ أليست العولمة سبباً رئيساً لشعور الفقراء بالحرمان؟ أليست العولمة سبباً في كثير من الجرائم المرتكبة اليوم في العالم الثالث نتيجة الشعور بالنقص والقهر؟..
للعولمة، وبرغم سلبياتها، ميزة غاية في الأهمية؛ فهي تضع اليوم مسؤولي الدول أمام تحدٍّ كبير، يتمثل في تهيئة إنسان الغد لتفادي الشعور بالإحباط والاكتئاب، في تجهيز إنسان الغد لتقبل التطور العالمي؛ لنقل التقنية والحضارة.. أليس كذلك؟ إلى لقاء قادم.