من حق الناظر والمتأمِّل في واقع الراهن العربي، أن يستشعر الانكسار والهوان فيما يجري ويدور في وطننا العربي من صراعات ومآس، غير أنّ مثل هذا الشعور والانطباع قد لا يكون بهذا الدرجة من السوء..
لو خرجنا من واقع الأحداث المستمرة إلى علوٍّ فكري يتيح لنا مشاهدة الصراعات كقصة سينمائية مصوّرة، نحدق فيه بعيوننا وتستثيرنا مشاهده ورسائل المؤلّف والمخرج.
أمامنا وطن عربي يحتل موقعاً جغرافياً مهماً في خارطة الأرض وتاريخ فريد في خلقه ونشوئه، ورسالة سماوية انتشلت عرب الصحاري والقفار إلى حكم إمبراطورية امتدت من الصين في شرق آسيا حتى فرنسا في غرب أوروبا، وقد نهضت أوروبا فيما بعد وانتشرت باحثة عن مجد وإمبراطوريات، ومن البديهي والطبيعي أن يكون الوطن العربي ساحة مهمّة للترويض والاحتواء، وما أن ولدت الولايات المتحدة الأمريكية وقوي عودها، حتى أزاحت إمبراطوريات أوروبا وحلّت محلهم، ولما كانت هذه الأمة تمتاز بتاريخ مشرف ورسالة سماوية سليمة وتجربة إمبراطورية بدأت مثالية، وقد انتهت بضعف وتفسّخ على يد المغول والتتار، فإنها استطاعت أن تقلب السحر على الساحر وتهزم عقيدته وتجعله ينتصر لعقيدتها، ولعله ومن قوة هذا السر أو السحر أن ظهرت الحاجة لقيام دويلة (إسرائيل) في قلب هذا الوطن، ولم تكتف تلك الإمبراطوريات الاستعمارية بحدود (سايكس بيكو) الذي مزّق العرب إلى أقطار متناحرة، بل استطاعت بهذه الدويلة وبدعم وإسناد منه، إلى إشغال العرب وتشتيت فكرهم وخلخلة بنيتهم وبنيانهم حتى هذا التاريخ، غير أنّ ميزان القوة اليوم تغير عنه في العقود الستة الماضية، وصارت كلفة الاعتداء أشد إيلاماً وخطورة من السابق.
وفي نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لا ضير من التوقف والتأمُّل واستقراء أسرار العقد الثاني من هذا القرن، واحتمالات الصورة العربية وأثره في تشكيلها، ليس من باب التنجيم وضرب الودع، ولكن من متعة المشاهدة وأثر الإثارة ومحاكاة المؤلّف والمخرج في رسم «السيناريوهات» المكملة لأحداث ومسار تلك القصة السينمائية التي أسلفت ذكرها في السطور السابقة.
لن تستكين هذه الأمة لعدو، وإن استمر الصراع وبأشد قوة، وقد تكون المآسي أكثر إيلاماً وتدميراً، ولكن في كلا الطرفين هذه المرة، بحكم التطوُّر والتغيُّر الذي يستجيب لمنطق التاريخ وطبيعته التي لا تتوقف على حال، بحكم أنّ كل قوة تبدأ أول ما تبدأ كاسرة قاهرة ثم مهيمنة ومسيطرة في أعلى رأس المنحنى الذي تبدأ معه هذه القوة في الانحدار التدريجي كقاعدة طبيعية في التاريخ، كما جاء في النظرية الحلزونية للمؤرّخ العربي ابن خلدون، ومن عجب أن نرى اليوم عجز أقوى قوة في العالم من الاستفادة من قوّتها العسكرية، بعد أن أرهقتها حروبها ضد العرب والمسلمين، والتي أدت إلى إرهاق وكساد اقتصادها، وقبل أن ينفرط هذا العقد الزمني جاءت ثالثة الأثافي من التقنية الإعلامية لتفضح سياستها ودبلوماسيتها وخفيات أسرارها، وكان ذلك مقابل صمود وإصرار واستيقاظ عربي من صدمات متتالية بدأت في عام 2001 و2002 و2003 و2006 وأخيراً 2008م حتى صار لدى المشاهد والمتأمل كثير من اليقين أنّ هذه الأمة العربية وقد أثخنتها الجراح وأثكلتها الآلام، تأبى وبعناد وقوة إلاّ أن تكون أمّة متميزة.
إنّ الخروج من التفاصيل إلى العناوين وطي العقود الزمنية كطي الصفحات التاريخية، يساعد الناظر والمتأمّل والمستقرئ للمستقبل أن يكوّن الصور الذهنية التي تتجانس ومنطق التاريخ وطبيعة الأشياء المتحركة، وإن بدت الصورة متفائلة وباعثة على الأمل ومحفزة للهمم وسط مناخ من الهوان والانكسار، فلا علاقة للتنجيم وضرب الودع بالعقل والمنطق.