«الشرف» لفظ من الألفاظ المحببة إلى النفس، فإن حروف الشين والراء والفاء تدل - كما يقول ابن فارس-: «على علو وارتفاع، فالشرف: العلو، والشريف: الرجل العالي، ورجل شريف: من قوم أشراف»، ومن الألفاظ المرادفة للشرف، أو المقاربة من حيث المعنى: الحسب، والسؤدد، والمحتد، والمجد، والعز، والجاه، وقد يكون بين هذه الألفاظ فروق دقيقة في معانيها.
وفي ضوء هذا التعريف يرد هذا التساؤل: هل يمكن أن نصنف الشرف ضمن قائمة الأخلاق، كالكرم والوفاء والأمانة والصدق، ونعده من جملة القيم الخلقية؟ والجواب: لا، لا يمكن تصنيفه كذلك، بل إنه مركز اجتماعي يخول الإنسان لأن يتبوأ مكاناً خاصاً بين الناس، ويمكنه من الهيمنة، لكنه قد يصنف ضمن قائمة الحقوق، كحق الحرية، وإن كانت مرتبته فوقها في نظر الناس.
ولأن النفس مجبولة على حب الظهور، والعلو، والتسلط، فإنها تتطلع تلقائياً إلى الشرف، مؤملة الوصول إليه، حتى لربما ادعته لنفسها زعماً أو وهماً.. أما مخولات الشرف ومقوماته وأسبابه فمن أهمها:
1 - النسب والأصل والمحتد: فإن طيب الأصول يتعدى إلى الفروع في الغالب، ومن هنا تبوأت قريش مكاناً سامقاً بين العرب، واختار الحق سبحانه وتعالى صفيه محمداً - عليه الصلاة والسلام - من بين هذه القبيلة لعراقة أرومتها.
2 - المال: فالناس ميالة إلى أهل الأموال، والمال يستر عيوب الإنسان، ولذا يسود صاحبه ويشرف، قال علي ابن محمد البسامي (ت 302هـ):
أرى كل ذي مال يسود بماله
وإن كان لا أصل هناك ولا فصل
3 - المنصب: وأعني به الرتبة الوظيفية العالية، وهو مقام معظم عند عموم الخلق.
4 - العلم: فإن العلم نور، والجهل ظلام، والعلم كنز لا يفنى، وكله شرف وجمال.
العلم زين وتشريف لصاحبه
فاطلب هديت فنون العلم والأدبا
5 - الخُلُق: كلما ازدان خلق الإنسان ازداد رفعة ومكاناً، وربما كان لبعض الأخلاق - كالحلم والشجاعة والكرم - أثر فعال في نفوس الناس، فيحترمون صاحبها، ويجلونه، قال ابن قتيبة: «كان يقال: أربع يسوّدن العبد: الأدب والصدق والعفة والأمانة» عيون الأخبار 3-224.
6 - الدين: وهو أشرف تلك الخصال وأجلها، والمهيمن عليها.. وإليه النظرة الأولى في الميزان الشرعي.
وكل هذه المقومات مكتسب من فعل الإنسان نفسه وجهده إلا الأول منها، فإنه ذاتي، ليس للإنسان فيه جهد، والإسلام لا يتنكر لهذه المقومات الشرفية، ولا يعترض عليها، ولكنه ينظمها ويوجهها الوجهة السليمة، ولو استقرأنا بعض النصوص الواردة في هذا المجال لاتضحت لنا رؤية الإسلام تلك.
فمن أبرز تلك النصوص:
1 - قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات 13)، قال ابن كثير - رحمه الله - في معرض تفسيره للآية: «فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء - عليهما السلام - سواء، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية، وهي طاعة الله تعالى، ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال تعالى: بعد النهي عن الغيبة واحتقار بعض الناس بعضاً، منبهاً على مشاربهم البشرية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}، أي ليحصل التعارف بينهم، كل يرجع إلى قبيلته».
2 - ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس أكرم؟ فقال: أكرمهم عند الله أتقاهم، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فأكرم الناس يوسف نبي الله بن نبي الله بن نبي الله بن خليل الله، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فعن معادن العرب تسألوني ؟ قالوا: نعم، قال: فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا».. قال الإمام النووي - رحمه الله -: «قوله (فقهوا) أي صاروا فقهاء وعلماء، والمعادن: الأصول، وإذا كانت الأصول شريفة كانت الفروع كذلك غالباً، والفضيلة في الإسلام بالتقوى، لكن إذا انضم إليها شرف النسب ازدادت فضلاً» (شرح النووي على صحيح مسلم 16-78).
3 - وما رواه أبو هريرة أيضاً مرفوعاً: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» رواه مسلم، وهو ظاهر الدلالة على أن الاعتبار بالنيات والأعمال، وليس بالأشكال وكثرة الأموال والرياش.
فهذه النصوص ونظائرها تدل على أن الشرف الحقيقي يكمن في الإيمان والتقوى والعمل الصالح والعلم النافع، وأن شرف غيرها يأتي في الدرجة الثانية، بمعنى أنه شرف مساند وليس شرفاً أصيلاً، كما أوضح ذلك النووي.. وذلك مما يؤكد سمو الإسلام في نظرته إلى الناس من خلال المعايير الدقيقة التي يزن بها الأعمال والتصرفات، وما يترتب عليها من نتائج دنيوية وأخروية.
وصدق الشاعر في قوله:
الناس من جهة التمثيل أكفاء
أبوهم آدم والأم حواء
فإن يكن لهم من أصلهم حسب
يفاخرون به فالطين والماء
ما الفضل إلا لأهـل العلم إنهم
على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه
وللرجال على الأفعال أسماء
ومن هذا المنطلق نهى الإسلام عن التفاخر بالأحساب والأنساب، فعن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى أوحى إلي أن تواضعوا، حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد» رواه مسلم، بل نهى عن تزكية الإنسان نفسه حتى لا يرفعها فوق الآخرين، قال سبحانه: {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} النجم32 ).
أجل: ذلك هو المنهج الذي لا يتغير، والقانون الذي لا يتبدل، إنه منهج الإسلام وقانونه «فمن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه» كما جاء في الحديث، على أنه لا ينبغي أن تفوت الإشارة إلى التنبيه السابق، وهو أن الإسلام لا يتنكر لمقومات الشرف الأخرى وأسبابه، أعني النسب، والمال، والمنصب... إلخ.
فإن النسب على سبيل المثال - وهو من أهم مقومات الشرف عند أكثر الناس - له أثره على أرض الواقع، فإن الأصول إذا طابت تعدى أثرها إلى الفروع، وذلك كما يقول الراغب الأصفهاني في الذريعة إلى مكارم الشريعة ص136: «لأن كرم الأعمام والأخوال مخيلة لكرم المرء ومظنة له، فالفرع وإن كان قد يفسد أحياناً فمعلوم أن أصله يورثه الفضيلة أو الرذيلة، فإنه لا يكون من النخل الحنظل، ولا من الحنظل النخل، ولذلك قال الشاعر:
وما يك من خير أتوه فإنما
توارثه آباء آبائهم قبل
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه
وتنبت إلا في منابتها النخل
* الرياض