* ليس من الضرورة لكل خاطرة أن تستحق التدوين، لكنك تقتنص كقارئ في بعض ثنايا الخواطر شوارد من الحكم، إما أن تكون من سنن الحياة المتعاقبة في كل الأزمنة والأماكن، أو تكون إشارات إلى بعض الصفات المتأصلة والمستولية على طباع البشر، وأي محاولة للتغيير لا تعدو كونها محاولة من يكلّف الأيام - كما قيل - ضد طباعها، والقارئ الحاذق هو من يفصل بين المواقف الشخصية والتجارب الذاتية ذات الإطار الضيق وبين التجارب العامة، وما أكثر العبر من التجارب، وما أقل الاعتبار، وهذه العبارة الآنفة الذكر اقتنصتها من جملة شوارد (عبد الله الماضي) في كتابه (الخواطر)، وهو الذي يملي علينا طرق هذا الموضوع.
* من تلك الخواطر نقول: بائسة هي تلك الحياة إن ثنت المعوقات عزائم صاحبها، أو أوقفت المؤرقات طموحاته. أكثر ما يشد همتك، ويدفعك للعطاء، واقتحام المخاطر، والتغلب على الظروف، أو مغالبتها تذكر هذا البيت:
دع الأيام تفعلُ ما تشاءُ
وطب نفساً إذا حكمَ القضاءُ
* المعنى الفلسفي لهذا البيت بنى عليه المؤلف خواتيم ومقدمات خواطره، فهيأ الإنسان من أول خاطره حتى لا ينقاد وراء نزوات أو رغبات جامحة سينصدم ببعضها لا محالة. ثمانية مواقف، أو حالات لابد أن تعترض مسيرة حياة المخلوق، والحصيف من وعاها قبل وقوعها:
ثمانية لابدّ منها على الفتى
ولا بدّ أن تأتي عليه الثمانية
سرورٌ، وهمٌ، واجتماعٌ، وفرقةٌ
وعسرٌ، ويسرٌ، واعتلالٌ وعافية
* من مراحل صباك، وفي فتوتك، كيف تتعامل معها،أو توطّن نفسك ومن حولك عليها. هذا هو السؤال العريض، وإجاباته متباينة، وليس من الضرورة أن تكون تلك الخواطر المصرّحة هي الرؤى الوحيدة في التعاطي معها، أو معالجتها، لذا ليس من الغريب أن تكون المواقف واحدة، والتحليل لها والتوجيه مختلف من شخص لآخر حاول أن يلامس تلك القضايا.
* أجمل مافي تلك الخواطر الهادئة أنها تحاول، أو يحاول صاحبها أن يدفع القلق عن الإنسان، ويحفزه إلى الجد والاجتهاد، والتسلح بالعلم والمعرفة في مواجهة الحياة، وتقلبات الزمن، حال عسر الإنسان ويسره، ولم يحاول منشؤها الخروج عن النسق المألوف، بل إن مبدعها على حذره واحتياطاته يقرّ، وقد شارف (السبعين) ضياع النصف الأول من حياته بين اللهو والأمل، ولم يستدرك المرحلة ويقتنص فتوته وكامل قواه ويوظفها كما ينبغي، لم يكد يفق حتى دهمته مشاغل أخرى أكثر جديّة ومطالب في المرحلة الثانية من العمر، وهكذا حتى آلت به الحال كغيره من البشر إلى حياة تحفها الأسقام، وتحيط بها العلل، وتلفها الأعراض ?رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً?. الإنسان اجتماعيٌ بطبعه، وقد يحتل مكانة يستطيع من خلالها اكتشاف الشخصيات الإنسانية أكثر من غيره، وفي اعتقادي أن هذا هو الجانب المثري من تلك (الخواطر)، فإنسان عايش في حياته اليومية أطيافا من البشر (زملاء، ومعارف، وأصدقاء، وخصوما، متنافسين، وأصحاب هوى، ذوي جنوح للاستعداء.... شخصيات انشغلت بما حققه أقرانها، حتى صارت مشحونة بالعدوانية، ومصوّبة سلاحها، مستنهضة قواها لعلها تصيب مقتلا، أو تحدث إعاقة..). أصحاب هذه النوازع علاجهم الوحيد مقابلتهم (بالحلم، والصبر، وإعداد النفس، وتوطئة الأكناف، والمجاملات والمدارات، ومراعاة الخواطر....). لا قيمة للإنسان ما لم يكن إيجابيا، متى تهيأت له الظروف، وأصبح قادراً على التصدي للواجب الذي تمليه الروابط المختلفة مع أبناء جنسه.