نشأت الأسواق المالية بهدف تمويل تأسيس الشركات أو تمويل مشاريعها وعملياتها وابتدعت هذه الأسواق أدوات متعددة للتمويل (أسهم، سندات، صناديق استثمار.. الخ) ومن أجل تحفيز الممولين من مؤسسات مالية وأفراد تم تطوير سوقين لهذه الأدوات، السوق الأولى أطلق عليه اسم (السوق الأولية) لشراء الأوراق المالية المطروحة الموافق على طرحها من قبل الهيئات المالية المنظمة بعد استيفائها كافة متطلبات طرح الأوراق المالية، والسوق الثانية أطلق عليها اسم (السوق الثانوية) وهي السوق التي يتم فيها تداول الأوراق المالية بهدف تحفيز نجاح الطرح الأولي، حيث تتيح هذه الفرصة للمكتتبين في السوق الأولية تسييل ما يملكونه متى شاءوا ذلك بسهولة ويسر.
الأسواق المالية التي أنشئت لتوفير التمويلات اللازمة أصبحت هي الأخرى سوقًا عملاقة أكبر من كل الأسواق فتحولت عن أهدافها تدريجيًا فبدل أن تصبح سوقًا للتمويل أصبحت سوقًا تستوعب تريليونات الدولارات سنويًا في مضاربات غير ذات قيمة مضافة، وقد عملت مراكز الأبحاث المالية لتطوير المزيد من الأدوات المالية لا بهدف التمويل بل بهدف إيجاد المزيد من المنتجات للمضاربين التي انتهت بالمشتقات المالية التي أودت بمليارات الودائع المالية في سلسلة كبيرة وصلت آثارها لأبسط الأفراد الذين نفذ لهم دهاة الأسواق المالية من خلال شبكات الإنترنت، حيث وصلوا بيوتهم وأغروهم للمضاربة بتحريك غريزة الطمع في أنفسهم حتى باتت المنازل صالات للمضاربة أو صالات للقمار دون أن يعلم أهلها بذلك.
فكر المضاربة الذي تطور في الأسواق المالية انتقل إلى الأسواق الاقتصادية الإنتاجية التي تستخدم الأموال لتنمو فإذا بالأموال الساخنة تستخدمها لتنمو على حساب كل عناصر من منتجين ومستهلكين ووسطاء وهنا انطلق عنصر جديد مؤثر بشكل كبير في التضخم، حيث ترتفع أسعار المنتجات بشكل كبير ومتسارع عندما تدخلها الأموال الساخنة التي تحرك المضاربة على تلك المنتجات حتى تحقق أعلى عائد منها في أوقات قصيرة لتغادرها إلى أسواق أخرى لتبدأ دورة جديدة وهكذا.
في كل سوق حيل يندى لها جبين الشيطان يطورها وينفذها عرابو مال لا همَّ لهم سوى جمع الفائض من الثروات لرفع الأسعار بعد السيطرة على أكبر كمية من منتجات تلك الأسواق بطرق قانونية يعصر بها القانون إلى أقصى الدرجات أو بطرق غير قانونية يصعب كشفها أو يحمى منفذوها من سلطات تم شراؤها بالمال الوفير، والأمثلة كثيرة ولا حصر لها وكلَّنا يذكر أسواق الرز والحديد والذرة والقمح والعقار أخيرًا سوق الشعير، أموال هائلة وساخنة تستخدم الأسواق لتحقيق أعلى العوائد بعيدًا عن نظريات العرض والطلب المتعارف عليها يدعمها وسائل إعلامية مجندة لخدمتها واحتكارات لأسواق مساندة مثل أسواق النقل البحري وغيرها.
إلى ماذا أريد أن أصل؟
سؤال سيقفز في رأس القارئ بكل تأكيد، والإجابة أريد أن أنبه لأحد أسباب التضخم الذي يجب محاربته، وهو استخدام الأموال الساخنة الضخمة للأسواق لتنمو بشكل كبير وسريع ومدمر بمسميات متعددة أهمها «المضاربة « وهو سبب ذو وزن نوعي كبير في التضخم، ومن أراد أن يعرف وزنه النوعي فليذهب إلى أراضٍ بعيدة جدًا عن المناطق السكنية ويرى كم وصل سعر متر الأرض هناك دون أي مبرر على أرض الواقع، وكيف انعكس ذلك على ارتفاع كبير في أسعار العقارات القائمة داخل المدينة وأثر ذلك التضخم في السوق العقارية على كل الأسواق الأخرى، حيث تتضخم أسعار المنتجات والخدمات نتيجة لذلك لتغطية تكاليف العقارات المهولة، إذ لا نشاط تجاري دون عقار، وبالتالي فنحن لسنا أمام مشكلة التضخم في السوق العقارية، بل أمام مشكلة صناع هذا التضخم من أصحاب الأموال الساخنة وأدواتهم ومنها تلك المكاتب العقارية التي تنتشر كالسرطان في كل الأحياء الجديدة دون أي أنظمة تعمل وفقها أو مراقبة لعملياتها التي يغلب عليها النجش المحرم.
ما هي الجهة التي يجب أن تنهض بمهمة محاربة الأموال الساخنة لمنعها من استخدام الأسواق؟
أعتقد أنها الدولة بكافة أجهزتها وأعتقد أيضًا أنه يجب أن تتعاون الدولة إقليميًا وعالميًا لمحاربة هذه الظاهرة الخطيرة التي لا نعلم أين ستؤدي بنا وبعالمنا فكل يوم ارتفاعات مهولة في الأسعار حتى باتت أموالنا تتضاءل قيمتها الشرائية بشكل مفزع يثير القلق في نفوس الجميع.