أحرص في كل عام على زيارة معرض الشارقة، وفي هذا العام وقفت على كتاب مطبوع سنة 2009م في دار الساقي بعنوان» السلفية الجهادية في السعودية « لمؤلفه فؤاد إبراهيم، ولن أتحدث عن انتمائه للطائفة الشيعية، ولن أفترض ابتداء سوء النية في الكاتب نتيجة ذلك الانتماء،.....
....احتراماً لطائفة تمثل جزءاً من هذا الكيان الإنساني الذي يقدر لمواطنيه - من أي جنس- مواقفهم الوطنية الشريفة، وآلمني صدقاً هجومه غير الموضوعي في التوطئة على بني أمية من أول سطر، علما أنني لا أضفي شرعية على الأخطاء التاريخية ولكن كنت أرجو من الكاتب ألا يغيب عن ذاكرته أن هذا التاريخ الإنساني مملوء بالإيجابيات والسلبيات ويجب عليه أن يستحضر شواهده التاريخية بمصداقية، وألا يكون انتقائيا في إدانة شخصياته وأحداثه التي شوهت كثيرا، وزورت بعناية شديدة بأيد غير نظيفة مثلما استغلت قضية الشيعة والسنة استغلالا أفقدها حقيقتها على مر التاريخ ووظفت توظيفا سياسيا أجبرها على الاستعصاء....
نحن في هذا الوقت بحاجة إلى عقلاء من الطرفين، يجمعون الشتات ويركزون على نقاط الالتقاء ويتجاوزون قضايا التوتر وأحداث المواجهة، يركزون على تعزيز الوطنية في النفوس، ووضع أيديهم بأيدي إخوانهم للدفاع عن الوطن ومؤسساته، وإن كانت هناك مطالب فالأبواب مفتوحة والصدور مدت يديها لاحتضان أي طلب منطقي يعزز الوحدة الوطنية، ولذلك أعترف أن إصدار مثل هذا الكتاب المليء بالافتراء ابتداء من أول صفحة وانتهاء بآخر صفحة ينافي الحكمة والموضوعية، لأنه مبني على قواعد سوء النية والإدانة والتشويه ولو بالكذب والافتراء الذي تجاوز مواقف المملكة العربية السعودية (ولاة أمرها، علمائها، شعبها) إلى شخصيات إسلامية سلفية كالإمام أحمد بن حنبل وشيخ الإسلام ابن تيمية والإمام محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب تؤكد جهله التام بقواعد السلفية وخلطه في مفهوم الجهادية حتى أنه أبى إلا أن يظهر في صورة كوميدية، فخلط الحابل بالنابل، وجهلا وربما تجاهلا حمل الدولة السعودية وموقفها الرسمي الواضح أخطاء تنظيم القاعدة وخلل بعض الأحزاب الحركية وتصرفات بعض السعوديين الذين يمثلون في فتاواهم وجهة نظرهم الخاصة مثلما يمثل هذا الكتاب وجهة نظر المؤلف فؤاد إبراهيم الخاصة دون تعميمه ليمثل موقف الطائفة وأفرادها... وإليكم الملحوظات:
1- قال المؤلف فؤاد إبراهيم ص 5-6:» فإن ابن تيمية تمسك برؤية ترتكز على عقيدة راسخة تشدد على الوحدة السياسية للمجتمع الإسلامي في ما يرتبط بشرط المبايعة والتي تعني تعاهدا متبادلا بين الإمام ورعاياه بما يضمن سلطة مؤثرة بالنسبة على الإمام وسلاما اجتماعيا وازدهارا بالنسبة على الرعايا رغم عدم تخلي ابن تيمية عن خيار الخروج في حال إخفاق السلطة في تطبيق الشريعة إذ إن مشروعية السلطة متوقفة على امتثالها لأحكام الشرع والقدرة على تجسيدها على عكس الإمام أحمد بن حنبل الذي تمسك بمبدأ طاعة الأمير برا كان أم فاجرا»...واستدل المؤلف في الحاشية بنقل نص لشيخ الإسلام من باب الجهاد في الفتاوى الجزء 28 ص 140:»كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم وغيرهم فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائعه...»
2- قال المؤلف فؤاد ص21:» وقد أجاز ابن تيمية الخروج على الإمام في حال عدم امتثاله للشريعة...وكان يرى الخروج على الحاكم غير الملتزم بتطبيق الشريعة»...
وأقول...الإمام ابن تيمية لم يختلف عن الإمام أحمد بن حنبل في هذه المسألة التي تعد أصلا من أصول السنة وكلمته (عدم امتثاله للشريعة) تعمية تحتاج إلى توضيح وإجمال يقتضي التفصيل، لأن هذا الخلط الملبس اختطاف لنص من رحمه وتوظيفه بطريقة غير موضوعية، والسلف الصالح كلهم يقررون أن تكون طاعته في غير معصية الخالق، قال الإمام الطحاوي رحمه الله في « العقيدة الطحاوية «: ( ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أُمورنا، وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضةً، ما لم يأمروا بمعصيةٍ، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة «، والإجماع الذي انعقد عند أهل السنة والجماعة على وجوب السمع والطاعة لهم مبنيٌ على النصوص الشرعية الواضحة التي تواترت بذلك، ونسي المؤلف فؤاد أن ابن تيمية قد سئل عن قتال التتار وهم غزاة فأجاب بهذا الجواب الذي أسقطه المؤلف على الإمام الشرعي الذي عقدت له البيعة من المسلمين... وهذا النص « ما تقول الفقهاء أئمة الدين فى هؤلاء التتار الذين قدموا سنة تسع وتسعين وستمائة وفعلوا ما اشتهر من قتل المسلمين وسبى بعض الذرارى والنهب لمن وجدوه من المسلمين وهتكوا حرمات الدين من إذلال المسلمين وإهانة المساجد لا سيما بيت المقدس وأفسدوا فيه وأخذوا من أموال المسلمين وأموال بيت المال الحمل العظيم وأسروا من رجال المسلمين الجم الغفير وأخرجوهم من أوطانهم وادعوا مع ذلك التمسك بالشهادتين وادعوا تحريم قتال مقاتلهم لما زعموا من اتباع أصل الإسلام ولكونهم عفوا عن استئصال المسلمين فهل يجوز قتالهم أو يجب وأيما كان فمن أي الوجوه جوازه أو وجوبه أفتونا مأجورين؟
فأجاب: الحمد لله كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم وغيرهم فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائعه كما قاتل أبو بكر الصديق والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم بعد سابقة مناظرة عمر لأبي بكر رضي الله عنهما فاتفق الصحابة رضي الله عنهم على القتال على حقوق الإسلام عملا بالكتاب والسنة وكذلك ثبت عن النبي من عشرة أوجه الحديث عن الخوارج وأخبر أنهم شر الخلق والخليقة مع قوله تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم فعلم أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه ليس بمسقط للقتال فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله وحتى لا تكون فتنة فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب فأيما طائفة امتنعت من بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحج أو عن التزام تحريم الدماء والأموال والخمر والزنا والميسر أو عن نكاح ذوات المحارم أو عن التزام جهاد الكفار أو ضرب الجزية على أهل الكتاب وغير ذلك من واجبات الدين ومحرماته التى لا عذر لأحد فى جحودها وتركها التى يكفر الجاحد لوجوبها فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء وإنما اختلف الفقهاء فى الطائفة الممتنعة إذا أصرت على ترك بعض السنن كركعتي الفجر والأذان والإقامة عند من لا يقول بوجوبها ونحو ذلك من الشعائر هل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا فأما الواجبات والمحرمات المذكورة ونحوها فلا خلاف في القتال عليها وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة الخارجين على الإمام أو الخارجين عن طاعته كأهل الشام مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإن أولئك خارجون عن طاعة إمام معين أو خارجون عليه لإزالة ولايته وأما المذكورون فهم خارجون عن الإسلام بمنزلة مانعي الزكاة وبمنزلة الخوارج الذين قاتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه»...
وبناء عليه فمذهب شيخ الإسلام هو مذهب السلف الصالح ولايختلف عن مذهب الإمام أحمد بن حنبل في التحذير من الخروج على إمام المسلمين، وخير مايؤكد ذلك قوله:
1- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: -رحمه الله - في الفتاوى:» المشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف وإن كان فيهم ظلم، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة، فلا يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، ولعله لا يكاد يُعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته. والله تعالى لم يأمر بقتال كل ظالم وكل باغ كيفما كان، ولا أمر بقتال الباغين ابتداء، بل قال: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} (9) سورة الحجرات، فلم يأمر بقتال الباغية ابتداء فكيف يأمر بقتال ولاة الأمر ابتداء».
2- قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في الفتاوى: «... ولهذا كان مذهب أهل الحديث ترك الخروج بالقتال على الملوك البغاة والصبر على ظلمهم إلى أن يستريح بر، أو يُستراح من فاجر...».
3- قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في منهاج السنة: «ولهذا استقر رأي أهل السنة على ترك القتال في الفتنة، للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم»
4- قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- في منهاج السنة: (وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر، أعظم مما تولد من الخير).
وبكل أسف لم يقتصر المؤلف على التزوير والتشويه والانتقاص من مذهب أهل السنة والجماعة ورموزه والافتراء على الأئمة وتفسير كلامهم على غير هدى والإساءة للمملكة العربية السعودية وثوابتها بل تجاوز هذا إلى الاستهزاء بالحديث النبوي الصحيح، والكتاب مملوء بهذا وسنقف عليه بحول الله في الحلقات القادمة، ومنه ماقاله ص 279:»فالجو الديني المشحون بالرعب والنذير من الخروج على الحاكم يجهض مجرد التفكير في مناوأته ولاسيما حين يوضع في سياق الفتنة التي يحدثها زواله بحسب الحديث سلطان غشوم خير من فتنة تدوم وأن البيعة عقد مقدس من مات وليس في رقبته بيعة مات ميتة جاهلية «، وهذه مقاصد للشريعة السمحة لاتخفى على ذي لب مع أن العلاقة بين الحاكم والمحكوم لم تغفلها النصوص الشرعية في أصول أهل السنة وضبطتها بضوابط معتبرة دون غلو وتطرف في مدح أو ذم صحابي أو ولي أو إمام أو حاكم.. وإلى الحلقة القادمة (الافتراء على محمد بن عبد الوهاب وأئمة الدعوة). والله من وراء القصد