في فراغ الفكر السياسي العربي صراع عجيب بين «أن نكون» أو «لا نكون».. بين «رفض الهزيمة» و«قبول الأمر الواقع».. بين «شرف الحرب» و«ذل الاستسلام».. وهذه الازدواجية المتناقضة في التفكير ليست جديدة وإنما هي ذات جذور عميقة بدأت منذ وعد بلفور عام 48م وقد لا تنتهي إلى الأبد.
وليس من شك في أن هناك انفصاماً واضحاً منذ بدأت مشكلة الشرق الأوسط بين القيادة العربية المسؤولة والقاعدة الشعبية في بعض دول العالم العربي.. فالقادة الذين على اطلاع كامل على إمكانات المواجهة مع إسرائيل.. يكادون يقررون بالإجماع أن كسب الحرب ضد إسرائيل هو مجرد انتحار.. بل هو من رابع المستحيلات، وعلى هذا الأساس يتصرفون، وعلى هذا الأساس تشبثوا بالحل السلمي وحتى الصلح مع إسرائيل وهم في مواقع الهزيمة «وهرولوا نحوه - الحمد لله أن بلدي ليس مع المهرولين».
أما القاعدة الشعبية العربية.. فهي تفكر - كما يدعي الطرف الآخر - بدافع الحماس والانفعالية، وبدافع رفض الهزيمة دون أن يكون لديها الوضوح والعلم الدقيق بإمكانات الحرب أو كسبها.
نقول: وما العمل..؟ كيف نستطيع العبور من شدق الذئب..؟ كيف نجتاز هذه المساحة الملغومة من تاريخنا..؟ هل نقبل بالحل السلمي بكل هذا الهوان الذي يمارسه «نتن ياهو»؟ أم ندخل الحرب مع العدو بخسارة مضمونة كما يقول بعضنا..؟ ومن العقل أن نتجاوز كل هذا لنسأل أولاً: هل تقبل إسرائيل بالحل السلمي أو الصلح..؟ وتسير فيه إلى آخر الشوط؟
إن المتتبع لتصريحات نتنياهو وكبار المسؤولين عن طواحين الحرب في إسرائيل لا بد أن يلاحظ شيئاً مهماً في استراتيجية التوسع الإسرائيلي، إنهم يتكلمون من فوق، من موقع القوة وغرور النصر.. إنهم على حد قولهم ليسوا بلهاء للتخلي عن حصاد حرب كاملة.. والانسحاب إلى قطعة من الأرض لا تتسع حتى للصهاينة قبل الخامس من يونيو.. إنهم يَعُدون مكاسبهم هذه مجرد بداية صغيرة لمكاسب عريضة تتحقق في المستقبل عند تجميع يهود العالم في منطقة الشرق الأوسط وفرض سيطرتهم عليها وإقامة الدولة اليهودية الممتدة التي يحلمون بها..!!
الإسرائيليون مقتنعون بأن الفرصة أمامهم مهيأة للبقاء في الأرض تحت ظروف الضعف العربي ووقوف قوى العالم إلى جانبهم، تمدهم بالمال والسلاح والكفاءات البشرية.. وهم يعتقدون أن الصلح مع العرب هو شيء وهمي.. فعندما أجري استفتاء مع كبار المفكرين والسياسيين الإسرائيليين حول هذا السؤال: «إذا وافق العرب على السلام والصلح مع إسرائيل فهل تعود إسرائيل عن الأراضي التي احتلتها وهل يستتب الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط..؟» ماذا كان الرد..؟ لقد أجمعوا في ردهم على أن قبول العرب بالسلام والصلح ليس أكثر من مرحلة.. فلا يمكن للعرب أن يقبلوا بإسرائيل، وحتى إذا قبلت بعض الأنظمة فلن تقبل الشعوب، وهنا لا بد من حرب جديدة معهم.
من هنا يتضح أن أطماع إسرائيل لا تقل أبداً عن أطماع نازيي ألمانيا؛ فالفكرة التي استولت على عقول النازيين القدامى والنازيين الجدد واحدة.. هي الاستيلاء على العالم.
إن إسرائيل لا تريد أن تكون في المنطقة قوة تنافسها أو تخشى حربها في المديين القريب والبعيد.. تريد أن تظل حرة الحركة في المنطقة، ولاسيما في المجال العسكري.. وعلى هذا فإسرائيل لا تستطيع إقامة صلح كامل مع العرب.
على أن إسرائيل من قبيل كسب الوقت تراوغ؛ فمرة تقبل بالسلام وتعود لترفض مثل هذه المحادثات متعللة بوجوب وجود الحدود الآمنة لإسرائيل.. والحدود الآمنة بمفهوم إسرائيل ومخططها الجهنمي هي حالياً كل الأرض المحتلة، أي بالخط العريض إن إسرائيل لا تعترف أصلاً بقرار مجلس الأمن ولا بمشروع السلام.. تريد أن تمط القضية بأي شكل انتظاراً لتنازلات من العرب أو ليأس ساحق يجتاح العالم العربي فيركع للحل السلمي كما تريد إسرائيل وبمحادثات مباشرة جداً.
إسرائيل مستعدة لأن تضحي بسلام العالم في سبيل مصالحها؛ لأن الأجواء السائدة في الشرق الأوسط يتعذر معها الوصول إلى حل ترضى عنه إسرائيل.
إذن فإسرائيل لا تريد حلاً للمشكلة، وهذه الحقيقة أصبح يفهمها كل العالم؛ إذن.. كيف ننظر إلى مشكلة الشرق الأوسط من خلال هذا التعنت الإسرائيلي؟ نعود ونقول كيف نمر من (شدق ذلك الذئب) الأشهب، وهو أشد الذئاب فتكاً (نتنياهو)؟ الحل الذي ليس له بديل هو أن نحدد الهدف أولاً.. ونستخدم الإمكانات المتاحة على الأصعدة السياسية والإعلامية والاقتصادية والبشرية كافة، والتهيئة النفسية للحرب وإمكانية النصر.
- الحل الذي ليس له بديل ألا نرضخ لأي حل ينال من كرامتنا، ونعيد إحياء الجبهات العربية بفاعلية أكثر لنستطيع الصمود ومن ثم توسيع التضامن العربي وتحريك العمق الإسلامي؛ لأن هذا على المدى البعيد هو القادر على استنزاف قوى العدو وتشتيت شمله.. فإسرائيل ليست صخرة صلدة وبناء متماسكاً كما نعتقد وكما يتوهم العالم المضلل بدعايتها.. إسرائيل مستوطنات تحميها قوة خارجية سرعان ما تنهار أمام قوة أكبر منها.. أمام قوة تستنزفها، تلسعها كالنحلة باستمرار.. ولقد نجح أطفال الحجارة ليس في إنزال الرعب في قلب إسرائيل فحسب، ولكنهم - على محدودية كفاحهم - خلقوا جواً من عدم الشعور بالأمن داخل إسرائيل.. فكانت الهجرة المعاكسة، وهي قدر إسرائيل.
إننا بالتأكيد قادرون على العبور من شدق الذئب إذا توكلنا على الله، وعرفنا جيداً كيف نخلع أنيابه بكثير من الشعور بالمسؤولية والكثير من الجهد المخلص الصادق، وإلا فسنظل ننفخ في القربة المقطوعة بلا جدوى وإلى الأبد.. وستظل إسرائيل هي إسرائيل.. يدعمها من يحتاج إلى أصوات اليهود في كل عام ليفوز ويتربع على عرش العالم.