ليس الأمر بحاجة إلى كثير من الإطالة والشرح: لن تعود حقوق فلسطين وأرضها ودولتها دون وحدة الموقف الفلسطيني في مواجهة العدو، ووحدة الموقف العربي وراء الموقف الفلسطيني في مواجهة العالم، ووحدة الموقف الدولي وراء فلسطين والعرب في مواجهة الصهيونية ومن يؤيدونها من غلاة الأميركيين والأوروبيين:
رسميون كانوا أم غير رسميين.
أما حجر الزاوية في هذه المعادلة، فهي وحدة التنظيمات الفلسطينية. بدون هذه الوحدة لا تعطي وحدة الموقف العربي وراء القضية ثمارها كاملة، وتكون وحدة الموقف الدولي نظرية، دون فاعلية عملية، لأنها ستنصب عندئذ على مبدأ هو حق الفلسطينيين في الاستقلال والدولة، بينما الأساس اليوم تحقيق الاستقلال وإقامة الدولة كأمر واقع مستقل عن أي مبدأ مجرد.
بل إن الموقف العربي سيبقى منقسماً إلى كتل وتيارات تتصارع حول فلسطين وعليها، وتلحق أفدح الضرر بنضالها وأهدافها، إذا لم تقم وحدة وطنية فلسطينية، ويتفاهم قادة التنظيمين الرئيسين: فتح وحماس، على جوامع ومشتركات تمكنهما من بلوغ الحد الأعلى من طموحات شعبهما، وتجبر العالم على تطبيق قرارات الشرعية الدولية، وخاصة منها القراران 242 و338، فتقوم دولة فلسطينية سيدة وحرة على أرض وطنها، تكون بمثابة رأس جسر إلى مستقبل لا بد أن يضمر ممكنات تسمح لها باستئناف النضال من أجل استعادة كامل وطنهما: بالتحرير أو بإقامة دولة تتسع لجميع من يعيش فيها من مواطنين.
دون وحدة وطنية فلسطينية، لن يتحد العرب حول فلسطين ومن أجلها، ولن يتفهم العالم كيف يوفق ممثلو فلسطين بين المطالبة بتحرير أرضهم من الاحتلال، وبين التطاحن العبثي عليها قبل جلائه عنها، وكيف يتقاسمون جلد دب لم ينجحوا بعد في اصطياده، كما يقول المثل! ليست الوحدة الوطنية الفلسطينية متاحة اليوم، بسبب وجود إستراتيجيتين متناقضتين لدى التنظيمين اللذين يقرران مصير وطنهما: فتح وحماس.
المشكلة أن حماس تعتقد بضرورة وحتمية خوض معركة متواصلة تنتهي بتحرير فلسطين بالقوة، وأن فتح تؤمن بالهدف عينه، لكنها تعتقد أن بلوغه ليس ممكنا بغير سياسات مرحلية، جوهرها اليوم إقامة دولة على الأرض التي احتلها العدو عام 1967، لا مفر من العمل في سبيلها، ليس فقط لكونها خياراً عربياً ودولياً وحسب، بل كذلك لأن الظروف الراهنة لا تتيح ما هو أفضل منها، ولا تمكن الجانب الفلسطيني من القفز عنها، مهما بلغ من حماسة واندفاع واستعداد للشهادة والتضحية.
بما أن الصراع على فلسطين لن ينتهي بقيام الدولة، بل سيدخل مرحلة نوعية بفضلها، فإن قبول حل مرحلي لن يعطل المقاومة، وسيفيد قضيتها: الباقية ما دام شعب فلسطين متمسكاً بحقوقه في كامل وطنه.
والحق، إن الشهيد الشيخ أحمد ياسين: مؤسس حماس، كان يقبل المرحلية، ويوافق على قيام دولة في حدود عام 1967، على أن لا يعني قيامها تخلي الشعب الفلسطيني عن حقوقه في كامل وطنه.
وهذا ما كان الشهيد ياسر عرفات يقره بدوره، منذ عام 1974 ومؤتمر الرباط.
بالمقابل، كان مؤسس حماس يرى كعرفات ضرورة إبقاء القضية الفلسطينية بمنأى عن الخلافات العربية والإقليمية، لما سيرتبه انخراطها فيها من ضرر عليها، ويفرضه من أدوار وواجبات لا تستطيع تحقيقها أو التصدي لها نيابة عن الآخرين، وخاصة منهم أولئك الراغبين في القتال حتى آخر فلسطيني.
هذه المعادلة التوافقية اهتزت ثم انهارت بعد استشهاد الشيخ ياسين، نتيجة تغيرات عرفها موقف حماس، والتزامات إقليمية انخرطت فيها، ووهم ركب رؤوس بعض قادتها جعلهم يرون في فشل فتح وبرنامجها فرصة سانحة لهم، وربحاً مؤكداً لتنظيمهم وبرنامجه، وليس خسارة للعمل الوطني، وتهتكاً في الموقف الفلسطيني قد يطيح بحقوق شعبها ودولتها ويقوض نضالها.
بدورها، اهتزت هذه القناعة بعد عملية الرصاص المصبوب عام 2008، التي واجهت حماس خلالها تحدياً عسكرياً يتجاوز قدراتها، قوض كثيراً من مصداقيتها وشعبيتها، وفرض هدنة عملية مع العدو، جعلتها تتحسب لأي عمل عسكري يقوم به ضد أي طرف في القطاع، وتدرك أن إسرائيل هي المستفيد الوحيد من الانقسام الوطني الفلسطيني، وأنها ستقاتل من يوحد مواقف التنظيمات، فأخذت، تحت وطاة رد فعلها على عجزها من جهة، وأضرار الانقسام من جهة أخرى، تتلمس وحدة حد أدنى وطنية ترتكز على تفاهمات إستراتيجية متوسطة الأجل، تجمع بين استعادة فلسطين كاملة كهدف بعيد، وتحرير ما احتل منها عام 1967 كهدف مباشر وقريب، وبلوغ قدر من الوحدة يجعل وضع القطاع محلاً لتفاوض يتيح له حل أزماته الكثيرة، التي يعاني مواطنوه أشد المعاناة بسببها، ويقال إنها تركت آثارا سلبية على علاقاتهم مع حماس.
هل يعني ما يبق أن محادثات دمشق الحالية بين فتح وحماس ستتمخض عن خريطة طريق تفضي إلى مصالحة عرضت بعض أسسها وركائزها؟.
يبدو أن حماس تخشى أن تترجم أوضاعها الصعبة مع مصر والعدو الإسرائيلي إلى اتفاق يتعارض مع مصالحها، تقول إن مصر بلورته، وإنها ستقبله بمجرد تعديله وتضمينه وجهات نظرها.
هل ستحصل حماس على ما تريد؟.
أعتقد أن هناك ميلاً لإعطائها ضمانات تطمئنها، وأن مصلحة فلسطين العليا تكمن اليوم في التوصل إلى اتفاق معها، بغض النظر عن ثمنه، ما دام فشل المفاوضات مع العدو سيتطلب نقلة نوعية في الموقف الفلسطيني، لن يكون بوسع أي طرف بمفرده إنجازها، علماً بأن غيابها قد يعني ضياع ما بقي من فلسطين، كما يقول الأميركيون والأوروبيون مائة مرة كل يوم، وتؤكد حقائق الوضع الفلسطيني ذاته، وتصريحات قادته الرسميين!.
لم يكن اتفاق التنظيمات الفلسطينية في أي يوم مضى مهماً كما هو في اللحظة الراهنة، حيث بلغت الأمور مآلاتها شبه النهائية، وصار من الضروري مواجهتها بكامل طاقات وقدرات فلسطين الموحدة، وإلا تحول تدهور أوضاعها إلى انهيار كامل، وأفلست تنظيماتها جميعها، وانفرد العدو بأرضها وسمائها ومائها، وتحرر من القيود التي قد تكبح اندفاعه نحو ما يسميه «الدولة اليهودية»، التي قد تخلو في مرحلة تالية من عرب 1948، وأخيرة من عرب 1967.
هل يرتقي العمل الوطني الفلسطيني، أخيراً، إلى مستوى تاريخي يتخطى معه خلافاته وما نجم عنها من كوارث، فيستعيد ما كان عليه يوم أطلق رصاصة الثورة الأولى عام 1965، أم يبقى كل طرف أسير حسابات جزئية، أنانية وضيقة، يظن أن فيها مصلحته، بينما هي تدمره وتقضي على مسوغات وجوده، ووجود القضية التي يدعي الدفاع عنها وتمثيلها؟.
بلغ الوضع الفلسطيني لحظة الحقيقة، حيث يطرح هذا السؤال / الخيار نفسه بقوة لم يعرفها من قبل، وصار من الضروري تقديم إجابة مختلفة عليه، تفيد من خبرة سنوات الانقسام المنصرمة، التي لم تكن بالتأكيد سنوات مجد وفخار لفلسطين، أو لمن انخرطوا فيه أو أسهموا في إدامته: من كافة الأطراف والتنظيمات.
لم يعد مهماً أن يكون هذا الطرف الفلسطيني أو ذاك على حق. في الخلاف الراهن، لا أحد على حق. إلا إذا كان غرض المتصارعين من التأكيد على صحة وجهات نظرهم خدمة العدو، الذي لم تخدم وجهات نظرهم المتصارعة أحداً غيره.
أليس خدمة ما بعدها خدمة للعدو أن تفتقر غزة إلى قوة الضفة وشعبها في مواجهة العدو وحصاره واعتداءاته، وأن تفاوض الضفة على مصير فلسطين، بينما تعاني الأمرين من ضعف سببه ابتعاد غزة عنها؟.