تحدّثت في مقالات سابقة عن بعضٍ من مآثر الملك الراحل موحد هذا الكيان وواضع اللبنة الرئيسية لتطور وعالمية مملكة الإنسانية المملكة العربية السعودية، وإنني حين أعيد الكرّة تلو الكرّة في الحديث والإطناب عن هذا الرجل العظيم صاحب الفكر والعقلية الفريدة فإني - في الحقيقة - أُسجّل إعجابي بكل شخصية قيادية تعمل على دمج الفكر المستنير بالواقع المشجع على التطور والانطلاقة صوب ريادة عالمية فريدة، وهذا - حتماً - ما نجده في الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - الذي وقف على قمة الهرم في القيادة والزعامة والتوجيه، وليس بدعاً من القول أن هذا كله أتى امتداداً لتاريخ أسرة حاكمة عريقة تميزت - وما زالت - بالصلاح وحب أهل العلم وتقدير العلماء والوقوف على حدود الله منهجاً وتطبيقاً ودعوة ونصحاً وإرشاداً وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر ومحاربة للشرك والبدع والخرافات، وأضافت على هذا التميز الأخذ بالعلوم وأسباب التطور العلمي والفني والتقني، فجمعت بين خيري الدنيا والآخرة.
وكانت الانطلاقة الجديدة في تاريخ أسرة آل سعود تلك التي أسس أركانها الملك عبدالعزيز بتوحيد البلاد والعباد فكانت واسطة العقد وأهم مرحلة تاريخية مرت بها الجزيرة العربية حيث أحدثت نقلة نوعية إيجابية، واختلافاً في المفاهيم السائدة عن الدولة وعن الحاكم وعلاقة الراعي بالرعية، فأصبح العدل هو السائد بين شرائح المجتمع كافة، وغدت البلدان تعيش العدل في جميع مناحي الحياة؛ فالخدمات تقدَّم للجميع والنهضة شاملة عامة بعد أن كانت قرى وبلدات فقيرة وأخرى غنية، وتلك آمنة وأخرى في خوف وقلقل.
وإن المراقب الحصيف والقارئ المتأني لسيرة مؤسس هذه البلاد ليلحظ أن الملك عبدالعزيز بعد أن أتمّ الله له مشروعه الكبير (توحيد المملكة العربية السعودية) انطلق نحو تطبيق ما كان يحلم به في أن يعيش المواطن في رغد من العيش يكسب قوت يومه وهو يتفيأ في ظلال الأمن والأمان، يجوب البلاد وهو مطمئن البال على نفسه وماله وعرضه، ولكن الحلم الكبير الذي لازمه منذ لحظة انطلاقته إلى قلب نجد؛ ليبدأ معركة التوحيد بفتح الرياض حتى وضع سيفه منتصراً موحداً للبلاد على منهاج النبوة، هو ما تمثل في أمر الله - عز وجل - لإبراهيم حين قال سبحانه وتعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}؛ لذا وضع - طيب الله ثراه - سلامة الحاج إلى بيت الله العتيق القادم من أدنى الأرض أو من أقصاها ورعاية شؤونه وخدمته في أولى أولوياته؛ فشرع في تصحيح أوضاع البلد المقدس، مهبط الوحي، وتنقيته أجوائه الإيمانية من الشوائب ومما يعكر ويخدش جناب التوحيد؛ فعقد مؤتمراً إسلامياً عالمياً بحث فيه مع مندوبي دول العالم الإسلامي وسائل النهوض بمستوى الخدمات في الأماكن المقدسة وتطويرها. يقول فان در مولين (انظر الملك ابن سعود والجزيرة العربية الناهضة، ترجمة ويسي آي سي - دارة الملك عبدالعزيز 1419هـ): «انعقد المؤتمر خلال صيف 1926م، واتجهت عيون العالم كله إليه، وبصفة خاصة عيون المسلمين» حتى قال مولين: «افتُتح المؤتمر بخطبة من الملك، دعا المندوبين للمناقشة والبحث عن أفضل الطرق لتحسين (الحجاز) أخلاقياً ودينياً، على أن تكون هذه الطرق مرضية للخالق ثم للعباد، لم يتطرق النقاش إلى ملكه والمشكلات الإدارية لبلده ورفض التدخل في شؤونه الداخلية». ويضيف فان در مولين بقوله: «وشاهد ممثلو الدول الأجانب أعمال الملك باهتمام كبير، وبدا لهم بسرعة أن (ابن سعود) رجلٌ كبيرٌ يعرف حدوده، ويقيد نفسه إلى هذه الحدود، وذكر بوضوح أن (مكة) سوف تصبح تحت حكمه، ولن يسمح بالتأثير السياسي في الحجاج»، وبهذا المؤتمر وضع أرضية للتطوير والتغيير الإيجابي للمدن المقدسة وتحديث مرافق مقصد المسلمين وقبلتهم».
وفي ظل هذا الاهتمام لم ينشغل - رحمه الله - عن المجالات الأخرى التي تصب في قيادة دفة الدولة الفتية، يقول المؤرخ الشيخ إبراهيم بن عبيد عن جهود الملك عبدالعزيز وتعدد أوجه الخير التي يهتم بها: «وبذلك نحيط علماً بجلالة هذا الملك العظيم وسعة تدابيره وأعماله، فما كان يشغل باله العمران وإصلاحات الحرمين الشريفين عن طبع كتب أهل السنة وتكبد الخسائر على ذلك عن الجهاد والقتال وإطفاء الثورات الداخلية» (انظر تذكرة أولي النهى والعرفان بأيام الواحد الديان وذكر حوادث الزمان لإبراهيم بن عبيد آل عبدالمحسن).
ولقد تنوعت وتعددت مظاهر التطوير والاهتمام بكل ما له صلة بالحج والحجيج من مرافق وخدمات؛ ما يصعب حصرها هنا والحديث عنها في هذه العجالة، فحقها من البيان مجلدات وبحوث ومؤتمرات وندوات، ولكننا سنعرض لنماذج وأمثلة مختصرة توضح خدمة الملك عبدالعزيز وحرصه - رحمه الله - على رعاية شؤون الحج والخدمات المقدّمة للحجاج.
ومنها عنايته بأن «يكون بنفسه على قيادة موكب الحج منذ أن انضم الحجاز إلى حكمه، إلى وفاته يرحمه الله» (انظر الملك عبدالعزيز والعمل الخيري للدكتور عمر بن صالح العُمري). وهذا وسام لنا دائم نحن شعب المملكة العربية السعودية حين نرى أن هذه الخطوات المباركة بالإشراف المباشر على أعمال الحج لا تزال في ولاة أمورنا حتى اللحظة.
ويصف لنا محمد لطفي جمعة قدوم الملك عبدالعزيز لبيت الله الحرام ومشاهدته له في طوافه حول الكعبة بقوله: «كان منظر الملك وهو يطوف ويسعى بالغاً غاية الجمال والكمال مع بساطته التي لا حد لها، فلا طقوس ولا مراسم ولا سادن ولا كاهن، ولا تاج ولا عرش، بل انتعال يكاد يكون حفاء، ورأس حاسر لله خضوعاً، وإحرام واضطباع وتنفيذ دقيق لأوامر الله، وهكذا طاف الرعايا من كل الأمم والملوك لكل الدول، ومن قبلهم النبي الأعظم منذ شبابه إلى حجة الوداع قبل وفاته، ليسوا - وهم يطوفون - رعايا ولا ملوكا ولا وزراء ولا عظماء، ولكن عبيد الله الذي سوى بينهم في عبادته وبين جميع خلقه» (انظر الأيام المبرورة في البقاع المقدسة رحلة الحج والزيارة إلى الأراضي الحجازية في عهد الملك عبدالعزيز آل سعود لمحمد لطفي جمعة).
ومن اهتمامه - رحمه الله - بضيوف الرحمن من الحجاج اهتمامه بصحتهم، وهذا ما نراه في خطابه المؤرخ في تاريخ 22-10-1344هـ الموجَّه إلى نائبه (الملك فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله) في الحجاز (انظر من وثائقنا الوطنية - إصدار المهرجان الوطني للتراث والثقافة ص169): «تخبرون جميع مشايخ المطوفين على أنه يلزم عليهم أن ينبهوا على جميع المطوفين الذي يصير عنده مريض من حجاجه يلزم بإخبار الدكتور خيري بالصحية حتى يحضر لمعاينته والكشف على صحته، فإن كان المريض فقير الحال ويجب نقله إلى الصحية نقلوه وأجروا مباشرته، وإن كان ميسر الحال ويجب بقاؤه في محله فيبقى فيه ويعوده الطبيب في الأوقات اللازمة. المقصود تنبهون على جميع المطوفين بهذا الموجب، أيضاً جميع المطوفين الذين عندهم حجاج ملزومون بإخبار الصحية بهم وبعددهم وبمحال سكناهم حتى تتمكن الصحية من الكشف على صحتهم وعلى محال سكناهم وتعمل من التدابير اللازمة لحفظ صحتهم» أ.هـ.
ومن التسهيل على الحجاج وضيوف الرحمن ما جاء في برقية من وزارة المالية إلى مالية بريدة في 6-9-1371هـ (وثيقة رقم 806 - أرشيف الوثائق الوطنية - دارة الملك عبدالعزيز) بإلغاء الرسوم الحكومية التي كانت تؤخذ على الحجاج القادمين من الخارج نظير بعض الخدمات التي تُقدَّم لهم، والتي كانت تُعرف برسوم الحج، وجاء في الوثيقة أن ما يخص حقوق المطوفين على الحجاج فقد ترك أمرها «بين الحجاج وبين أرباب الخدمات المعنيين أنفسهم» (الملك عبدالعزيز والعمل الخيري للدكتور عمر بن صالح العُمري).
يقول الدكتور عمر في كتابه أيضاً: «كما وضع الملك عبدالعزيز على رأس اهتماماته بخدمات الحج والحجيج توجيه عناية خاصة بمشروعات السقيا وتوفير المياه للحجيج في مكة المكرمة ومشاعرها، وللزوار والمقيمين في المدينة المنورة، وتوفير المياه في المحطات الأخرى للحجاج، وبخاصة القادمون منهم من الخارج عبر البواخر إلى جدة، فمن اهتمامه بتوفير المياه في مكة المكرمة تشكيل هيئة خاصة لرعاية عين زبيدة وزيادة مواردها من المياه والمحافظة على تلك المياه من خلال تجديد مجاريها».
وعلى ما بذل - المغفور له بإذن الله - من جهود جبارة قاوم من أجلها الصعاب وواجه من التعب والنصب وهو الملك والزعيم وقائد البلاد وصاحب الأمر والنهي فيها، إلا أنه يقف شامخاً بتواضعه، حين لا ينسب تلك الجهود له ولا يشير إلى أن له اليد الطولى في تنفيذها، فاقرأ معي - بتمعن - ما قاله محمد لطفي جمعة الذي قابل الملك عبدالعزيز في يوم 3 من ذي الحجة سنة 1359هـ: «... وكان جالساً ومحاطاً بالأمراء والوزراء وكبار رجال الدولة ونهض وصافحنا وتحدّث إلينا وسمعت أقواله وهو يتكلم بصوت رقيق». حتى قال جمعة: «ثم ارتجل جلالته في الحاضرين الخطاب الآتي: فبدأ الكلام بحمد الله والثناء عليه، وتذكر نعماء الله وأفضاله، وسرد نشأة الدعوة للإسلام في نجد وما لاقت، ثم قال جلالته لما قمنا بهذه الدعوة إلى الله ما كنا نرجو إلا الله ولا نخاف إلا هو، وقد كان الناس يسمون آباءنا وأجدادنا بالخوارج، والحقيقة أننا لم نخرج إلا على الأهواء الفاسدة، التي اخترعها الناس في الدين، وما قمنا إلا لتكون كلمة الله هي العليا ودينه هو الظاهر، ولا نريد من الناس إلا أن يؤمنوا بالله وحده، خرجنا في بلادنا ونحن ضعفاء، وحاربنا بعض الأنصار وبعض الحكومات، وكانت النتيجة أن أخرجنا من ديارنا وبلادنا، أُسر منا من أُسر وقُتل منا من قُتل، كل ذلك في سبيل الله وفي سبيل نصرة دينه وإعلاء كلمته، إنّ الذي يهمنا في هذه الحياة هو إعلاء كلمة الله، وهذه الألقاب التي يستعملها الناس من ألقاب ملوكية وأمثالها من المخترعات ليست محببة إلينا وإنما المحبب إلينا أن نكون عباد الله وأن نبذل أنفسنا وحياتنا في سبيل الله، أقول إنه ما دام الله معنا فلا نبالي بأحد، ونحن نحب آل بيت رسول الله ونشهد الله على حب من قام بأمره وأما من عمل ما يخالف أمر الله فلا نحبه». ومما قال - طيب الله ثراه - عن شعبه من سكان الديار المقدسة: «فلم أنم وهم ساهرون بل أسهر إذا ناموا وأفكر فيما يصلح حالهم وأمرهم فلا اقتصدت دونهم مالاً ولا قصرت في أمر أستطيعه في تأمين راحتهم وبذل النفس والنفيس في مصلحتهم، وأحبهم كما أحب نفسي وأحب عائلتي وأسأل الله أن يجمع كلمة المسلمين والعرب ويوفقهم لما فيه الخير وأن ينصر دينه ويعلي كلمته آمين».
وبعد هذا فحق للمملكة العربية السعودية حكومة وشعباً أن تفخر وتفاخر بخدمة ضيوف الرحمن بعد أن زرع فينا مؤسس هذه البلاد حب الخير، وجعل نفسه قدوة لنا وللأجيال القادمة في خدمة ضيوف الرحمن حين أعلى منزلة هذه الخدمة وجعلها شرفاً وجهداً يُقدّم منا للحجاج بطيب نفس وأريحية متناهية.
وما زال العالم يرى المشاريع الضخمة والمرافق المتطورة، ويرى هذه الدولة تجند الصغير والكبير لخدمة ضيوف الرحمن، ولا تسمح أن يعكر صفو عبادتهم لله وتأديتهم فريضتهم نقص في الخدمات أو قصور في الأداء، كما لا تعطي الفرصة للجهلة والمنحرفين إيماناً وعقيدة بأن يحيدوا بالحج نحو مقاصدهم العفنة وأهوائهم المنحرفة ومللهم الباطلة.
رفع الله شأن هذه البلاد، وجعل ما تقدمه لضيوف الرحمن علواً وشموخاً لها، وأن يكلل جهود خادم الحرمين وولي عهده والنائب الثاني وجميع من يخدم حجاج بيت الله بالنجاح والسداد والتوفيق، كما نسأل الله أن يرد كيد الأعداء ويجعل تدبيرهم تدميرهم وأن يحفظ علينا ديننا ودنيانا، إنه بر رحيم.
ثرمداءSDOKHAIL@GMAIL.COM