قبل أربعة مواسم، وتحديدًا في حج عام 1427هـ، كنت قلقًا جدًا مما سأعانيه عند الجمرات، خصوصا أنني أتذكّر طفولتي مع أخي الأكبر وأبي، وكيف كاد فوج إفريقي هادر أن يهلكني وأخي، الذي تلقّى ضربة كوع سوداء مرعبة، جعلته يترنّح ويكاد يغمى عليه! كان هؤلاء يتّجهون إلى حوض جمرة العقبة ويعودون من الطريق ذاته، وحالما يقابلونك متماسكي الأيدي يكونون أشبه بجدار صلد يصعب اختراقه، فيدهسون العجائز في طريقهم، أما الصغار أمثالنا فإنهم يرفعونهم في الهواء مثل بالونات خفيفة!
كنت أقول لزوجتي بأننا مقبلون على معركة مرعبة، وخرجنا ظهيرة الجمرة الأولى، كنت أرى الفوج يسير كالنهر، نهر من الرؤوس الملبيّة، وقتذاك كان الدور الثاني فقط هو ما أنجز من جسر الجمرات، وما أن انسللنا داخل النهر البشري حتى أحسسنا بأننا نسير كما لو أننا في نزهة، هواء بارد وجو روحاني بديع، حتى وقفنا على حافة الحوض ورجمنا، ثم واصلنا الطريق بشكل التفافي رائع، كان التنظيم مذهلاً، وفكرة الطوابق في الجمرات فكرة رائدة!
قلت لزوجتي: خلاص انتهى الحج، وسلمنا من التعب والعذاب! ولم أتوقّع أن النفرة من عرفة قبيل الغروب إلى مزدلفة سيكون يومًا تاريخيًا في حياتنا، فبدلا من أن نصل خلال عشر دقائق، أو ربع ساعة على الأكثر، توقفت بنا الحافلة على بعد ثلاثة كيلو مترات من مزدلفة قبل الفجر بنصف ساعة تقريبًا، إذ بقينا في الحافلة، وخلال ازدحام شديد جدًا أكثر من عشر ساعات مضنية، وكانت هذه هي لحظة النكد الحقيقية خلال الحج!
إذن كانت المشكلة المحورية في حج السنوات السابقة، بعد إيجاد حل مدهش للجمرات، هي في التنقل بين المشاعر، خاصة في نفرة الحافلات بمنظر مرعب عند غروب شمس عرفة، ومن هنا يأتي مشروع «مترو» المشاعر، والذي بلا شك ورغم السخط المبدئي عليه، لن يختلف عن سخطنا على طوابق الجمرات، وخوفنا من سقوط الحجاج، ولعل أولى الثمرات المبهجة في حج هذا العام تمثلت في إلغاء وجود 3000 حافلة كانت ستشكل قلقًا وتعطيلاً مروريًا، وذلك يعني أن حجاج هذا العام سيستطيعون المبيت في مزدلفة، لا المبيت في الحافلة كما حدث لي ولزوجتي قبل أربع سنوات!
علينا أن نتجاوز شكل «المترو» ولونه - وأنا أسميه «مترو» وليس قطارًا، لأنه يغطي مسافة أطوال قليلة تبلغ عشرين كيلو مترًا - فالشكل لا يعني شيئًا إذا حقق الهدف، وأوجد حلاً للاختناقات المرورية المعروفة في المشاعر، إذ يبقى المهم هو كيفية التنظيم في الركوب والنزول في المحطات التسع، وهي تشبه حالة الجمرات، التي لولا وجود جيوش من شبّان الكشّافة ورجال الأمن ينظمون سير الحجاج الراجلين أثناء الرمي، لحدثت اختناقات وحالات دهس بالرغم من الطوابق الخمسة في الجمرات.
هذا المشروع العملاق بعشرين «مترو» وما يقارب مائتين وأربعين عربة وتسع محطات، والذي تم تشغيل 35% منه خلال حج هذا العام، يجب أن يتم دعمه بالعناصر البشرية المتدرّبة، ويجب علينا أيضًا أن نرفع أكفنا بالدعاء له بالنجاح والتوفيق، وندعو للقائمين عليه بخير الجزاء.. وأكاد أجزم أن من عاش مأساة المبيت على كرسي حافلة يهدر محركها طول الليل، ثم جرّب غدًا أن ينام ليلة هانئة في مزدلفة سيدعو للقائمين على مشروع «المترو» بالثواب والأجر، وسيخبر أهله حالما يعود عن أخبار الحاج «المترو»!