أعلن أمس عبر وكالة الأنباء السعودية عن وعكة ألمّت بخادم الحرمين - حفظه الله - ووصفها البيان بوضوح و(شفافية) بأنها على وجه التحديد (انزلاق غضروفي في الظهر) قاطعاً الطريق على الشائعات، والتخرُّصات، والأقاويل، التي في العادة ترافق مثل هذه الأنباء، ويكون لها آثار وانعكاسات سلبية إذا ما تُركت دونما توضيح. وعندما تضع الناس في الصورة منذ البداية، كما في البيان الذي تم الإعلان عنه، فأنت تحاصر الشائعة وتلغي وكالة (يقولون) التي كان الناس في الماضي يرخون آذانهم لبعض من يهتم بأنبائها من الفضوليين. ولولا الإمعان في (السرِّية) والتكتُّم الشديد لمَا كان للشائعات في بلادنا كل هذه القيمة. ورغم أنّ المثل الشعبي يقول: (الناس مثل النمل لو ما شافوا أروحوا)، إلاّ أنّ العقلية العربية (التقليدية) تجد في السرِّية والكتمان والإمعان في الغموض، والبُعد عن الشفافية، حكمة ورويَّة، بينما تجد في الإفصاح والشفافية تفريطاً بالسرِّية والكتمان.
والتعامل مع الشائعات، ومحاولة محاصرتها، هي اليوم من اهتمامات الإعلام في هذا العصر، حيث تقوم أجهزة ووسائل الإعلام بدور محوري في صناعة الرأي العام في داخل الدول وفي خارجها. وعندما تخفق الدول في التعامل الذكي والحصيف مع هذه الوسائل، كأنْ تحاول أن تخفي بعض الأبناء، أو تبديها جزئياً، فإنّ النتيجة في الغالب تكون ذات مردود سلبي، وتكون الشائعة لها صدقيّة، ويكون أثرها في النتيجة أعمق من تأثير الوسائل الإعلامية.
والشائعة هي في الغالب خبر أو تحليل أو معلومة تكون قابلة للتصديق؛ وكلما كانت الشائعة معقولة كان أثرها وانتشارها أقوى، بينما إذا كانت بعيدة عن الواقع، والمعقولية، يكون تأثيرها ضعيفاً. والإنسان بطبعه ميّال إلى تصديق الشائعة عندما لا يجد الحقيقة، أو على الأقل لا يجد من يتحدّث عنها. لذلك فإنّ هناك علاقة (عكسية)، أو هي عدائية، بين الشفافية والشائعات، فكلما زادت الشفافية قلّ أثر الشائعة، والعكس صحيح؛ أي أنّ الشفافية (تسحق) الشائعة، وغياب الشفافية يسحق الحقيقة.
ورغم أنّ بعض الدول في المنطقة لجأت إلى محاصرة الشائعات من خلال الأنظمة والقوانين، وجرَّمت من يبثّ الشائعة، وأنشأت لذلك أجهزة حكومية لتتبع من يبث الشائعات، ومعاقبتهم، إلاّ أنّ مثل هذه القوانين والأنظمة في النتيجة كانت عديمة الفاعلية، فكانت حسنتها الوحيدة أنها خلقت وظائف لبعض العاطلين عن العمل، أما فاعليتها فكانت تحور وتدور حول الصفر. فوسائل الاتصال بين الناس أكبر وأوسع من أن يقوم جهاز بيروقراطي بتتبُّعها، ومحاصرتها، هذا فضلاً عن أنّ منشأ المعلومة، وهنا (الشائعة)، قد تكون خارج النطاق السيادي والجغرافي للدولة، فيصبح تتبُّعها بغرض معاقبة مطلقيها تحتاج إلى سُلطات أممية، الأمر الذي يجعل مثل هذه الحلول ضرباً من ضروب العبث والخسارة. لذلك فمواجهة الشائعة هي فقط بالمزيد من الشفافية؛ وليس في عصر العولمة وسيلة متاحة لمحاصرة الشائعات وآثارها السلبية غير الشفافية، والشفافية فقط.
حفظ الله خادم الحرمين، وعجلَ في شفائه؛ ففي كل مرة يثبت لنا أنّ قراراتنا العليا أصبحت أكثر نضوجاً وعقلانية وحصافة ومواكبة للمتغيّرات العالمية. ولعل تركيز هذا البيان على (الشفافية) كحيثية لإصداره يحمل الكثير من المؤشرات التي تقول الكثير، ليس للمواطنين فحسب وإنما لبقية المسؤولين أيضاً. إلى اللقاء.