رحم الله محمداً اليماني، الأكاديمي ذا العلم التطبيقي، والسمو الأخلاقي، الإداري الحازم مع لين الجانب، سمعت عنه مذ كنت تلميذاً في المرحلة المتوسطة، ورأيته وهو يحاضر في النادي العربي عن صخور القمر، ولم يدر في خلد صاحبكم أنه سيدنو من هذا النجم اليماني من خلال «برج الإذاعة العربية السعودية»، واسمحوا لي -بعجالة- أن أسجل بعضاً من انطباعاتي عن «فقيد الوطن».
هو الوزير الذي لم يرتكب من توزيره وزراً، ولم يتخذ من وزارته مدخراً، يجمع بين الهيبة والتواضع وهما عند غيره كالجمع بين الأختين. أدركت سنة من فترته الوزارية، وكنت إذ ذاك مذيعاً في إذاعة الرياض إبان دراستي الجامعية، كنت شاباً يافعاً أحب الإذاعة وأحبته ولم يكتب لهذا الحب أن يستمر لبزوغ شمس الإعادة والدراسات العليا فقدر الله أن أعيش الحياة الأكاديمية تبعا للعقل لا العاطفة. لقد كانت تلك الفترة عصيبة فقد ابتليت البلاد بفئة ترعرعت في هذا الوطن وتنكرت له وقادها الهوس الأعمى إلى عمل لم يجرؤ عليه أبرهة ولا القرمطي، هذه الزمرة لم تمتط فيلا بل ركبتها شياطين من الإنس والجن ليهينوا بيت الله ويمنعوا عنه المعتمرين والركع السجود. ففي المحرم من سنة 1400هـ، كان تدنيس الحرم المكي وفيه تم تطهيره من تلك العصابة، وللوطن دولة تحميه، واستطاع الإعلام السعودي أن يتعامل مع الحدث بما يناسب تلك المرحلة، وكان وزيرنا -رحمه الله- يشاطرنا الهموم ويرابط معنا داخل مبنى الإذاعة يشعرنا أن الصوت الوطني واحد يتقبله المتلقي بقبول حسن.
ذات يوم لا ينسى، سولت لنا أنفسنا أمراً أنا وثلة من المذيعين (صالح السويدان، سعيد الدرمحي، عبدالله الزيد) يقدمنا الأستاذ سليمان الشبانة -رحمه الله- وكنت والدكتور سليمان العيدي حديثي عهد بالعمل الإذاعي وفي الوقت نفسه أكثر المتحمسين لمقابلة معالي الوزير، ولم ندر أننا تجاوزنا حواجز إدارية حمراء كان ينبغي أن نتدرج فيها ومنها لا أن نبدأ بالهرم الإداري لكنها فورة الشباب. ألفينا لدى باب الوزير سكرتيره (آنذاك أحمد القحطاني) فأشار بالدخول فدلفنا نحو المكتب وكان -رحمه الله- في استقبالنا بوجه طلق وهو يردد «أهلا بأولادي» وبعد أن أطلقنا العنان لما تكنه صدورنا من معانٍ وأماني هي من وجهة نظرنا مهمة لأنها تصب في صالح المذيع الوطني قال لنا: مالي سوى عينين وأنتم عيوني وما أملتموه سيتحقق. ومشى معنا حتى الباب. وفجأة ودون سابق اتفاق التفت إليه الأستاذ الشيخ سليمان الشبانة شارحاً وضع المذيعين العملي والمادي وذكر له أنهم بحاجة إلى دعمه في الحصول على منح في حي لبن فتبنى الفكرة وتم منح عدد من مذيعي إذاعة الرياض.
لقد كان -رحمه الله- يعبق بالمشاعر الوطنية، كان ينادي الموظف في وزارته ب»يا ولدي» ولم يتخذ قراراً ضرّ أحدا إلا بعد أن يمنح المقصر فرصة للتراجع. غير أنه لا يتهاون في أمر يمس الأخلاق، وإذا عثر على أحدهم مجترحاً سيئة أشار إليه بالانتقال من الوزارة لأن العمل الإعلامي حساس ويجب أن يبقى نظيفاً من كل شائبة. رأيته يتفقد الوزارة إدارة وإذاعة وتليفزيوناً صبح مساء بروح مرحة وبنفس متواضعة وما يريد إلا الإصلاح.
بعد أن ترجل الفارس عن صهوة خيوله أعني مناصبه تفرغ للبحث والتحصيل في سيرة نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأصدر فيها كتبا ونشر مقالات وألقى محاضرات وندوات وأعد برامج منافحاً عن هذا النبي الكريم وآله الأطهار. ونسأل الله الغفار أن يجعل ذلك في موازين حسناته وأن يدخله فسيح جناته مع الأبرار.
وتقبلوا - قراء الجزيرة - أزكى تحاياي
د. عبد الله بن عبد الرحمن الربيعي - أستاذ العلاقات الحضارية - أستاذ الدراسات العليا كلية العلوم الاجتماعية، قسم التاريخ والحضارة بجامعة الإمام بالرياض