المطلوب إذن أن نحتفي بجميع الذين عملوا في (الإذاعة) و(التلفزيون) كرواد أوائل.. من بقي منهم على قيد الحياة.. وهم عدد قليل ونزر يسير، ومن سبقنا إلى رحاب الله.
وكذلك الاحتفاء بالأجيال اللاحقة التي جاءت بعد جيل الرواد الأوائل، والباقون من هؤلاء على قيد الحياة، ليسوا بالعدد القليل.
ثم ملاحظة الظروف الصحية.. وبعضها ظروف صعبة يمرّ بها بعض هؤلاء الأحياء، والأسماء التي ذكرتها، والشخصيات التي أشرت إليها في السابق لا تُشكِّل إلا عينات من أولئك الناس.. ونماذج من مختلف أوساطهم!!
إنَّ تكريم المتميزين من جيل الرواد الأوائل.. والأجيال اللاحقة أمر مهم جداً.. ومن هؤلاء الناس: وزراء ووكلاء وزارة، ومديرون عامون.. ومنهم مذيعون نجوم، ومخرجون بارزون، ومهندسون مميزون، وكُتَّاب مرموقون، ورسّامون مبدعون، وموسيقيون بارزون.. منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر.. ونسأل الله لهم أن لا يبدلوا تبديلاً.
إنَّ تكريم هؤلاء وأولئك حتم لازم وواجب أكيد.. وطالما أنَّ بينهم وزراء وبينهم فنانين كباراً ومبدعين متميزين، فالواجب أن تقوم (وزارة الثقافة والإعلام) بكل إداراتها بهذا التكريم، وتحمُّل أعباء هذه المهمة الكبيرة.
إنني لا أريد التحدث عن الآثار العظيمة والنتائج الكبيرة التي سيخلفها هذا التكريم في أوساط الإعلاميين وأوساط أسرهم وذويهم، ومحبيهم والمعجبين بهم، وهؤلاء: أقصد المحبين والمعجبين بالإضافة إلى ذوي القربى، سيكونون نتيجة لهذا التكريم على قناعة تامة بأن العمل المتقن لا يُنسى، وأن المجتمع يكرّم ويعظّم، وأن صنائع الخير لا يمكن أن تغفل عنها الأمة، ويتجاهلها الوطن، وأنّ الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
قلت لا أريد أن أتحدث عن آثار التكريم ونتائجه في أوساط الإعلاميين.. فهذا أمر معروف، لكنني أود التحدث عن تفاصيل تتعلق بالأمور التي أرى أن يُكافأ عليها هؤلاء المكرمون المعنيون والجوائز التي اقترح أن تُقدم إليهم.
لقد درجت العادة على تكريم من نود تكريمهم بأن نقدم لهم درعاً تذكارية من البرونز أو الفضة أو الذهب.. أو نقدم لهم شهادة مكتوبة على ورق صقيل.. وبخط جميل تفيد أنّ (صاحبنا) كان مجداً، وكان مجتهداً، وكان مميزاً، وكان فريداً من نوعه في عمله.
إنّ هذا شيء جميل ولا شك، ولكن الأجمل منه أن يكون مع هذا التكريم المعنوي ومع هذا التقدير الرمزي، تقدير مادي كبير ذو قيمة مميزة.. ولا سيما إذا لامسَ هذا التقدير المادي ضرورة لدى المكرَّم (بفتح الرائد المشددة) أو حاجة من حاجاته الأساسية.
إنّ الزملاء السبعة الذين ضربت حالاتهم أمثلة على ما أرمي إليه في الحلقة السابقة من حديثي هذا - متّعهم الله بتمام الصحة وزاد في أعمارهم - إن هؤلاء يمثلون عيِّنة قليلة من غيرهم من أصحاب المطالب وذوي الاحتياجات.. وهذه المطالب وتلك الاحتياجات تتمثَّل في عرض بعض حالاتهم على جهة.. أو جهات صحية متقدمة في أي مكان من هذا العالم بغية تصويب تلك الحالات الصحية أو التخفيف من آثارها السلبية على الأقل.. وبعض أولئك الأشخاص استقالوا من العمل.. وهم في قمة نجاحهم وعطائهم.. والناس، كثير من الناس لم ينسوهم حتى الآن، وسيبقون راسخين في الذاكرة إلى فترة طويلة جداً، وهؤلاء في أمسِّ الحاجة إلى أن يُحتسب لهم راتب تقاعدي أو مكافأة شهرية مجزية تتناسب مع أسمائهم وبصماتهم.. وما قدموه للناس.. وما بذلوه لأوطانهم.
والبعض منهم ذو عيال ولكنّ ظروفه جعلته يسكن هو وزوجته وأولاده في بيت صغير متواضع مستأجر!.
والبعض تراكمت عليه ديون كثيرة حتى أثقلت كاهله، وجعلتْه يتوارى عن لقاء الناس، ويستحي من مواجهتهم، فقد يصادف بعض أصحاب الحقوق المالية عليه فيطالبونه، ولا يستطيع أن يتجاوب مع ما يريدونه منه.
ومن هؤلاء شخص يسكن مع واحدة من أرحامه المحارم في بيت مستأجر من غرفتين.. تدفع أجرته هذه المرأة القريبة الساكنة معه لأن ما يحصل عليه من دخل شهري لا يكاد يغطي احتياجات الطعام والشراب واللباس.
إنني أؤكد على ضرورة تكريم هؤلاء الرواد الإعلاميين المبدعين من الرجال والنساء تكريماً مادياً كبيراً.. بالإضافة إلى تكريمهم المعنوي وتقديرهم الإنساني.. ففضلاً عن الرعاية الصحية المتقدمة، التي أراها ضرورية لبعضهم الآخر، والمكافآت والمنح التي أُنادي بها لبعضهم الثالث.
... أحب أن تُكافأ العبقرية من خلال مكافأة صاحبها.. أو مكافأة أهله وذويه إن كان قد سبقنا إلى لقاء الله سبحانه وتعالى.. أحب أن تُكافأ العبقرية.. العبقرية الإعلامية بكل أنواعها وصنوفها وألوانها.. وَلأَضْرِبْ على هذه العبقرية المقصودة أمثلة ممن هم على قيد الحياة.. أو من سبقونا إلى لقاء الله عزّ وجلّ:
(الشيخ علي الطنطاوي)، (الشيخ جميل الحجيلان)، (د. بدر كريّم)، (ماجد الشبل)، (د. عايض القرني)، (مسلم البرازي), (د. طارق الحبيب)، (محيي الدين القابسي)، (د. سلمان العودة)، (منذر النفوري)، (الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن عقيل)، (سعيد الهندي)، (سليمان العيسى)، (أحمد الشقيري)، (عبد العزيز الهزاع)، (الشيخ عبد العزيز المسند)، (د. عبد الرحمن رأفت الباشا)، (د. عبد الرحمن العشماوي)، (عبد العزيز الحماد)، (د. عبد الله المصلح).
أحب أن تُكافأ هذه العبقرية الإعلامية التي تألقت في هؤلاء الناس من خلال أعمالهم الوظيفية.. أو من خلال أنشطتهم الأخرى الأساسية، وفي غيرهم.. أحب أن يكافؤوا مكافأة خاصة مميزة مادية ومعنوية، يترك تقديرها لاقتراحات اللجان المختصة ذات الخبرة والدراية التي أرجو الله أن تُشكَّل لهذا الغرض وتُكلف بالإعداد اللازم لهذه المكافأة!
ولا يظننّ أحد أنني قد بالغت في هذه المطالب، ورفعت السقف عالياً في هذه المقترحات، فمن المعروف أن العرب من أسلافنا كانوا يفاخرون بميلاد (شاعر) إذا قام بينهم, وقد نُقِل عن بعض الساسة البريطانيين المحدثين ولعله (تشرشل) رئيس وزراء بريطانيا الأسبق الذي قاد بريطانيا إلى النصر في الحرب العالمية الثانية، أنه قال: (إن الوصول إلى شخص يرأس الوزارة أهون من الوصول إلى مذيع ناجح!).
وفي تقديري أن هذا الكلام صحيح.. وليس فيه أية مبالغة.. ففي (بريطانيا) تفوق المذيع (روبن دي) على جميع أقرانه في محاوراته ومناظراته التلفزيونية، وقد استحق بجدارة لقب (سير) الذي منحته له ملكة (بريطانيا) نظراً لسبقه وتقدمه، وأعتقد أن السيد (لاري كنغ) مذيع المحاورات والمناظرات التلفزيونية الشهيرة ليس بعيداً عنا.. فهو نجم لامع ثاقب من نجوم محطة ال C.N.N كما هو مشاهد!
إنني أود أن أتوقف ثلاث وقفات أمام ثلاثة ممن اقترحت تكريمهم التكريم الشامل على عبقريتهم الإعلامية الفذة.
(الشيخ علي الطنطاوي) عليه رحمة الله.. نجح منذ نعومة أظفاره كمعلم للمرحلة الابتدائية.. ثم كمعلم للمرحلة المتوسطة والثانوية.. ثم كأستاذ في المرحلة الجامعية، ومع حصوله على الشهادة الجامعية في الآداب والشهادة الجامعية في الحقوق، تألق كأديب وخطيب وداعية إلى الله، ثم التحق بسلك القضاء فوصل إلى أعلى مستوى فيه وهو مستشار محكمة النقض أو (التمييز).
نجح كذلك كصحفي حينما اشتغل في الصحافة، وناب في فترة من الفترات عن الأستاذ أحمد حسن الزيات عليه رحمة الله في رئاسة تحرير مجلة (الرسالة) المجلة الأدبية العريقة الفذة، وأكثر من ذلك فقد تربع (الشيخ علي الطنطاوي) عليه رحمات الله - وهذا ما يهمنا في هذا المجال - تربع على سدة الحديث الإذاعي.. ثم الحديث التلفزيوني المبهر ولأكثر من ستين عاماً في عالمنا العربي، بل في أي مكان يُسمع فيه حديثه أو يُسمع ويُرى، ويكفيه -رحمه الله- أنه كان بحديثه ذلك.. كان يشد إليه الصغير والكبير، والرجل والمرأة والطفل، والعامي والمثقف، والمتدين وغير المتدين!
الوقفة الثانية ستكون عند شخصية الشيخ (جميل الحجيلان) - متعه الله بالصحة وأكرمه الله بالعمر الطويل والعمل الصالح الجليل -.
إنه من طليعة الجيل السعودي الذي كافح وناضل ليكون من المثقفين الأوائل في أوائل النصف الثاني من القرن الميلادي الماضي.
لقد حرص في دراسته على إتقان اللغتين الإنجليزية والفرنسية فتحدث بهما وخطب وكتب.. فضلاً عن إتقانه للغته الأم اللغة العربية.. وهذا إنجاز كبير، وتوجه إلى دراسة (القانون) فنال شهادته الجامعية، وكانت تلك الدراسة وذلك التخصص شيئاً نادراً قليلاً لدى الأقران قبل خمسين عاماً أو أكثر.
ثم تسنَّم عدداً من المناصب المهمة (وزارة الإعلام) و (وزارة الصحة).. وكان سفيراً للمملكة في عدد من السفارات المهمة وبخاصة في (باريس).. كذلك فقد شغل منصب الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج وعلى طول فترتين.
... وكان في كل هذه المناصب متألقاً.. ولكن تألقه في وزارة الإعلام كان ملفتاً للنظر بخيره الكثير وعطائه الجزيل، وإنجازاته، وعبقريته الإعلامية!
الوقفة الثالثة أمام الإعلامي الكبير الدكتور (بدر أحمد كريّم).. الذي عمل مذيعاً.. وكان مذيعاً ناجحاً، ثم تدرَّج في السلم الوظيفي إلى أن وصل إلى منصب (مدير عام الإذاعة).. وكان ناجحاً، ثم انتقل إلى (وكالة الأنباء السعودية) فعمل مديراً عاماً لها، وكان ناجحاً، ثم اختير لأن يكون عضواً في (مجلس الشورى) وكان ناجحاً!
لكن أكبر نجاح حققه بجده واجتهاده، وصبره وكفاحه ونضاله، وببره لوالديه، وقد رأيت جانباً من ذلك بأم عيني، حينما صادفته في إحدى الدول العربية، كيف كان مرافقاً لأبيه المريض، عاملاً على إسعاده، ساعياً إلى إيناسه بكل ما تحمله هذه العبارة من معنى، إن أكبر نجاح حققه فحاز على العبقرية بجدارة أنه دخل الإذاعة قبل حوالي خمسين عاماً يجيد القراءة والكتابة فقط.. ولا يحمل من الشهادات العلمية أية شهادة، وخرج منها ومن غيرها من الوظائف الأخرى التي عمل فيها يحمل شهادة (الدكتوراه)!!.. ولم يثنه عن تحقيق هدفه أنه كان في السبعين من العمر عندما حصل على هذه الشهادة!!.
*للاتصال وإبداء الرأي : z-aiayoubi@hotmail.com