يحج الحجيج إلى الديار المقدسة قادمين من أشطر الدنيا المختلفة حتى لا تكاد تخلو بقعة من بقاع العالم إلا ومنها وافد يرجو ما عند الله بأداء فريضة الحج؛ ليكمل ركناً من أركان الإسلام إن استطاع.
والحاج في الغالب يأتي إلى الحج وهو يحمل بين جنباته قلباً تملؤه المحبة والشوق إلى أداء تلك الفريضة والقيام بالنسك من طواف وسعي ومبيت ووقوف بعرفة, ويستعد لذلك الحدث أيما استعداد سواء كان ذلك مادياً أو نفسياً أو حتى جسدياً، وهو يعلم أنه ليس ببالغه إلا بشق الأنفس؛ ولذا فهو يعلم مسبقاً أن التعب والعناء سيأخذ منه نصيباً، غير أن مقدار المحبة تفوق مقدار العناء المتوقع، وفي الغالب فإن ما يتوقعه الحاج من عناء يكون أكثر بكثير من الواقع؛ وذلك لفرط الخيال الذي يكتنف المرء عند عزمه على السير في طريق ربما لم يألفه من قبل أو أنه قد ألفه لكن الأمور تغيرت فتوقع تغيراً بتغيرها.
ومن الإنصاف، دون ملق، القول إن المملكة قدمت من الخدمات لحجاج بيت الله الحرام ما لا يمكن حصره أو وصفه، دون النظر إلى مقدار ما يُصرف من جهد أو يُبذل من مال، ولهذا فإن الحاج في الغالب يجد من سبيل الراحة ما يجعل الكثير مما رسمه خياله من مقدار العناء يتراجع بنسبة عالية.
والحاج يذهب راجياً ما عند الله حاملاً نية التوبة في ذهنه، مواعداً نفسه الانصراف عما قد اقترفه من ذنوب في سره، وهو عمل جليل ومظهر عظيم من المظاهر المرتبطة بالحج والحجاج؛ لذا فإن الغالب من الحجاج يعود وقد عزم على ترك ما قد اعتاد عليه من هفوات بين الفينة والأخرى.
ونظراً لعظمة هذا المقام وأهمية هذه النية الكبيرة بترك الهفوات وما تحمله من سمو أخلاق فإن من المناسب أن يجمع بين ما عزم عليه من ترك تلك الهفوات التي غالباً ما تمارس في السر، وتلك التي كثيراً ما نجاهر بها إلا النادر اليسير.
إن الكثير من الأخطاء التي نرتكبها ونجاهر بها والمنافية لتعاليم الدين تكمن في المعاملات، وليس العبادات فقط؛ فالأمل أن يعزم الحجاج على ترك الكذب لتحقيق مصلحة دنيوية، أو النفاق للوصول إلى الغاية، أو الغش لنيل المال، أو أكل لحوم الناس أحياء بالخوض في أعراضهم، فكأنما هم ملتزمون بكتاب الشاعر السميسر الذي سماه: شفاء الأمراض في النيل من الأعراض.
والأهم من ذلك الأمانة المادية والإدارية التي جعلها الإسلام أساساً من أساسات المجتمع، ومع هذا فإن عالمنا الإسلامي ما زال في الغالب بعيداً كل البُعد عن الالتزام بتلك الأمانة العظيمة.
والأمل أن يكون الحج دافعاً رئيسياً لبعض الممارسات في المعاملات التي ما زالت عامل هدم لمجتمعنا الإسلامي الذي يحمل في قلبه الكثير من أوجه الخير مثل الوفاء والرحمة والصفح والقول المعروف والتسامح. ونختم بقول الشاعر:
نواقعها لأجل الناس سراً
وكم ذنباً نقارفه عيانا