قبل سبع سنوات كتبت مقالة نُشرت في هذه الصحيفة «الجزيرة» عنوانها: «هذا هو العصر الصهيوني». وكان مما ذكرته فيها أن اليهود -ببراعتهم الشيطانية الهدف والأسلوب- بذلوا جهودهم المكثفة لفرض نفوذهم على العالم منذ زمن بعيد.
وكان من هذه الجهود بث مبادئ الماسونية التي راقت لأناس من ذوي المكانة السياسية والاجتماعية في أقطار المعمورة، وبخاصة تلك المتقدمة علمياً واقتصادياً. ثم نشطوا على مسرح الأحداث بترسيخ فكرة الصهيونية، التي لم يقتصر اعتناقها على فئات كثيرة منهم فحسب، بل أيدها واعتنقها فئة من المسيحيين لا يستهان بها عدداً ومكانةً. وأصبحت كل من الماسونية والصهيونية تكمل الواحدة منهما الأخرى.. واختتمت تلك المقالة بالقول: (لعلّ من أوضح الأدلة على أن العصر الذي نعيش فيه الآن هو العصر الصهيوني أنه يمكن أن يُسبّ عيسى -عليه السلام- ويُقدح في عرضه عبر أفلام وكتابات في الدول الغربية التي تدين غالبيتها برسالته، لكن لا يمكن أن ينتقد زعماء الدولة الصهيونية على ما يرتكبونه من جرائم بشعة، وأن كل من يطمح إلى الزعامة في تلك الدولة، أو يرجو الاستمرار في زعماتها، لا بد أن يظهر ولاءه ومحبته لهذه الدولة المجرمة).
وفي العام الماضي نشرت مقالة في «الجزيرة» أيضاً، عنوانها: (ألسنا في عصر صهيوني؟). وقد ركزت الحديث في تلك المقالة على نجاح الصهاينة في التخطيط لاحتلال فلسطين، ثم في تنفيذ ما خطّطوه يساعدهم في هذا التنفيذ زعماء غربيون اجتمع لديهم كرههم للمسلمين، لاسيما العرب منهم، وتغلغل فكرة التصهين في نفوس بعضهم بحيث أصبحوا أكثر يهودية من اليهود أنفسهم.
وكان مما أشرت إليه في مقالتي تلك أن المتأمل في أحداث الماضي والحاضر يرى أن مواقف الإدارات الأمريكية المتعاقبة لا تختلف -بالنسبة لقضية فلسطين بالذات- من حيث الجوهر اختلافاً ذا شأن، سواء كانت جمهورية أو ديمقراطية، تماماً كما لا تختلف سياسة زعماء الصهاينة وأهدافهم من حيث الجوهر مهما بدا من اختلاف، أحياناً، في تصريحات أولئك الزعماء. ولذلك فإني لست مع المتفائلين بأن الإدارة الأمريكية الحالية لديها الرغبة في اتخاذ موقف عادل تجاه قضية فلسطين، أو القدرة على اتخاذ ذلك الموقف العادل لو فرض أن الرغبة في اتخاذه موجودة. وإن ما يعلن في هذه الأيام على ألسنة بعض ساسة أمريكا من ألفاظ يبدو بعضها معقولاً لن يؤثر في الموقف الأمريكي الثابت المتأصل؛ وهو الموقف المنحاز للكيان الصهيوني.
وكنت قد كتبت المقالة الأخيرة في أجواء إلقاء الرئيس الأمريكي خطابه المشهور في جامعة القاهرة، الذي بلغت حماسة أحد من استمع إليه، وهو يلقيه، حداً جعله يهتف قائلاً بلغة إنجليزية وبلهجة مصرية مميزة: «نحبك يا أوباما». ونشرت، إلى جانب تلك المقالة، قصيدة صدى لذلك الخطاب من أبياتها:
ونحن الأُلى أضحى لنا الذل شيمة
وصرنا جماعات تداس وأقواما
مساكين نحن العُرْب يكفي نفوسنا
مجاملة من ساسة الغرب إكراما
وإن مَنّ بالقول الجميل مُفوَّه
هتفنا وردّدنا: «نحبك أوباما»
ما توقعته حينذاك -في خضم تفاؤل من تفاءلوا بمجيء باراك أوباما إلى رئاسة أمريكا- أثبت مرور الأيام صحته. فحتى الحقوق الفلسطينية التي صدرت فيها قرارات دولية من منظمة تتحكّم بمجلس أمنها هذه الدولة، مثل حق عودة اللاجئين إلى وطنهم فلسطين، وانسحاب الصهاينة من الأراضي التي احتلوها عام 1967م، لم تعد من الأمور التي يلقي لها بالاً قادة أمريكا. بل إن الصهاينة تمكنوا من أن يجعلوا حليفتهم الإستراتيجية تقف حجر عثرة في طريق وصول تقرير جولدستون المدين لجرائم أولئك الصهاينة المرتكبة ضد غزة وأهلها إلى هدفه المنشود، تماماً كما فعلت بالنسبة لما ارتكبوه ضد أسطول الحرية الرامي إلى فك الحصار عن تلك المدينة الصابرة المرتكب أفظع الجرائم بحقها. وما هو واضح كل الوضوح الآن هو مواصلة الضغط على جماعة أوسلو من الفلسطينيين وأشياعهم من العرب كي تستمر المفاوضات العبثية مع قادة الكيان الصهيوني المجرمين متزامنة مع استمرار تهويد الأراضي الفلسطينية المحتلة يوماً بعد يوم -بما في ذلك القدس ومسجدها الأقصى-، ومع الإلحاح على الاعتراف بيهودية الدولة الصهيونية تمهيداً لطرد من بقي في فلسطين من العرب بعد عام 1948م.
ذلك هو الوضع بالنسبة لموقف الإدارة الأمريكية الحالية، التي تفاءل من تفاءلوا بمجيئها إلى الحكم جهلاً منهم أو تجاهلاً لحقيقة ما للصهاينة من نفوذ على مفاتيح مسار الأمور في أمريكا. فماذا عن الوضع في أوروبا؟.
في العام الماضي زار بابا الكاثوليك فلسطين المحتلة. وكان من بين ما فعله هناك زيارة أسرة الجندي الصهيوني، شاليط، الذي كان أداة قتل للفلسطينيين الأبرياء والتنكيل بهم، فأسر كما يؤسر، أحياناً، أي مقاتل في جيش من الجيوش، ناهيك عن أن يكون هذا الجيش إجرامي النزعة والتصرّف. لكن البابا لم يشر مجرّد إشارة إلى أكثر من اثني عشر ألف سجين فلسطيني، بينهم أعضاء في برلمان منتخب انتخاباً حراً نزيهاً، وبينهم نساء وأطفال. ولم يدّخر ذلك البابا وسعاً في تمجيد اليهود وتقديس تراثهم، كما لم يدّخر وسعاً في تعبيره عن أساه لما حدث لهم من مآسٍ ونكبات، لكنه لم يقل كلمة واحدة عمّا ارتكبه الصهاينة من جرائم في حق الفلسطينيين، وآخرها جريمة مجزرة غزة الرهيبة، التي لم تجف دماؤها بعد عند زيارته تلك.
وعند كتابة هذه المقالة جاء إلى المنطقة وزير خارجية بريطانيا، التي مهّد ساستها الطريق للصهاينة لاحتلال فلسطين ولم ينسحبوا منها إلا بعد أن اطمأنوا إلى أن هؤلاء الصهاينة قد أصبحوا قادرين على إقامة كيانهم على أرضها. وكان مما أبداه من خضوع لإرادة قادة الصهاينة المجرمين أنه اضطر صاغراً إلى وعدهم بأن حكومته ستعمل على تغيير قانونها القاضي باعتقال من يأتي إلى بريطانيا من أولئك المجرمين وفق ما هو موجود الآن في القانون البريطاني.
والأمثلة الدالة على تمكّن الصهاينة من إملاء إرادتهم على زعماء الدول القوية في العالم كثيرة وكثيرة. وكل هذا يدل على أنهم ما زالوا هم السادة المطاعين.