تعود بي ذاكرتي نحواً من البدايات البريئة، حين كان لورق الصحيفة رائحة تعمِّر الأنف، وتضفي على الأعماق نكهة نشوة، لم نكن لنستطيع تفسيرها، وكل يوم عند بوابة البيت، يكون لنا موعد انتظار لأب قادم وبجوار مقعده في العربة، تنتظر كفوفنا تلك الصحف, أو لصبي يافع على دراجته يقدم من البطحاء بها, حيث كانت المكتبات الوحيدة التي تبيع الصحف هناك، فتتلقّفها أيدينا، ونذهب بها فرحين حيث مكتباتنا المنزلية الأولى تتكوّن مع تكويننا، وتنهض مع أقدامنا، كما كانت تنهض فينا الهمم، والتوجُّهات، ولا أسعد من تلك اللحظات التي تكون الصحيفة في طرد، ومعها تعليق طارئ من مدينة خارجة عن الرياض، جاءت من قريب محب، أو عم متابع، أو معلِّمة تدرك حجم الفرحة، إذ لم نكن على عهد بالطرود البريدية تحمل لنا غير الصحيفة المفضّلة التي نجد فيها ما يرسم البسمة على شفاهنا، ثم أصبح للطرود البريدية تحمل رسائل مفردة، أو كتباً ليست متاحة في المكتبات القريبة، أو مجلات أدبية، أو هدايا من أخ مسافر, أو صديقة بعيدة، مشاعر أكثر استقراراً من وهجة الطفولة برائحة ورق الصحيفة.., إذ نمت وهجة فارهة، ومفرحة لمدلول الطرود البريدية، التي مع الوقت والمتغيّرات التحديثية والانتقالية، حجَّم وصولها ما حجم تداولها لقرب المسافات، وتعدُّد الوسائل، وانتشار المكتبات، وكثرة محال المبيعات على اختلافها، عما كان من الصعب وجوده في متناول الرغبة أو الحاجة.., وبقيت لنا من الحاجة لتبادل الطرود ما إن متطلّبات العمل، والعلاقات، أو السرعة, أو التوفير تقررها أو تقنّنها، ومع مرور الزمن بهتت تلك الوهجة الداخلية بالطرود البريدية تصل بين اليدين بسبب ربما هو تشبُّع النفس، أو لازدحام المشاعر، أو لكثير مما اعترى حياة الإنسان فشغله عن أفراحه، وزجّه في التفكير والجدية... غير أنّ ما يحدث الآن من استخدام هذه الوسيلة في الاعتداء تفجيراً، وتدميراً، وقتلاً... مهما كانت أسبابه، أو خلق من تداعياته.., فيه من مكر الإنسان، وعدوانيته, ما يؤكد التبدل الكبير في أغراضه، وغاياته, ومنهج تفكيره، ووسائل تعبيره عن مواقفه.., تلك التي غيّرت من مفهوم الحياة، ولوّنت مشاعر الإنسان.., وأكدت تداخل الغايات والأغراض، وجور الوسائل للتعبير عنها،...
فهل يصد الإنسان عن وسيلة البريد باختلاف المؤسسات المضطلعة بشؤونه..؟ أم يكون على تخوُّف وحذر من أي طارق له بطرد..؟ أو لأيّ كومة مغلّفات, أو صناديق صغيرة يجدها في مساره، داخل بيته, أو مكتبه أو عند بابه..؟ وإنْ كان فلاحاً يستيقظ مع العصافير ويهجع معها..؟ إذ أصبح حتى الفلاح الذي يحب «عيشة الحرية» كما الطيور محاطاً بالظنون، موقوفة طروده عند التفتيش، وإنْ كانت تحمل من الشجر ثماراً قضمها العصفور فزاد حلاها..؟
غابة هي الحياة مخيفة لا تطمئن فيها الشهقات للزفرات..
اغتيلت فيها وهجة البراءة، وتبخّر فيها عطرها العتيق..
وغدا الإنسان تائهاًَ في غموضها وظلامها..