أجد أنه من المناسب في محطتنا الرابعة المتعلقة بأوراق السوق المالية المحلية، والتي سيتم استكمال بقية محطاتها لاحقاً أن يتم تلخيص أهم ما تم التوصل إليه من حصيلتها التي استعرضنا تفاصيلها معاً طوال الأسابيع القليلة الماضية، إذ يمكن أن نبلورها فيما يلي من نقاطٍ رئيسة على النحو الآتي: (أولاً) ضرورة إعادة بناء وتأسيس إستراتيجية أفضل تنظم وتفحص جيداً اكتتابات الشركات العاملة (أو العائلية)، مع التأكيد على أن يُضاف إلى عامل الربحية عند تحديد سعر الطرح، عوامل أخرى كالمديونية، والملاءة، والقدرة على استمرار تلك الشركات في ممارسة نشاطها، إضافةً إلى ما سيأتي ذكره بعد قليل من محاور بالغة الأهمية لإرسائها كأساسيات في صلب بناء تلك الإستراتيجية المؤمل أن ترى النور قريباً. (ثانياً) إن علاوات الإصدار لأغلب الاكتتابات فيما بعد 26 فبراير 2006م اتسمت بالمبالغة فيها (وصل متوسط علاوة الإصدار للاكتتابات المحددة أسعارها سلفاً إلى 44 ريالاً للسهم)، بما يقتضي نظامياً العمل منذ اللحظة على معالجة هذا الخلل الخطير بعد ثبوت وقوعه، واتخاذ كافّة الإجراءات المانعة لتكراره، وإيقاف تداعياته السلبية القاسية على مختلف أطراف السوق المالية وتحديداً مجتمع المستثمرين. (ثالثاً) إن حتى الطريقة القائمة الآن المتمثلة في طريقة بناء سجّل الأوامر، لم تُثمر كثيراً في الحدِّ من الارتفاع المبالغ في العلاوة، حيث تراجعت بنحو 20 في المائة إلى نحو 35 ريالاً للسهم، بصورةٍ تؤكد الأهمية القصوى للنقطة السابقة والعمل بصورةٍ عاجلة قبل الإعلان والموافقة عن أية اكتتابات قادمة. (رابعاً) إن التجربة الراهنة للاكتتابات اتسمّت بالخلل نتيجةً لعددٍ من الأسباب؛ كان من أهمها عدم وجود ما يُلزم المتعهد بالتغطية بأن يشتري ما لم يتم تغطيته بالاكتتاب، ما سمح للمشاركين في عملية الاكتتاب (مدير الاكتتاب، المتعهد بالتغطية) بالابتعاد كثيراً في اتجاه المبالغة في التسعير، وبالطبع فإن الثغرة الأخطر هنا تمثلتْ في وجود طريقٍ مفتوحٍ للعودة أمام المتعهد بالتغطية، أتكئ فيها على عدم وجود ما يلزمه بشراء ما تعهد بتغطيته إن لم يجد من يشتري من المكتتبين! رغم أنها الحد الفاصل لتحقيق العدالة أثناء عملية نقل ملكية الأصول بين البائعين والمشترين، وكونها أيضاً من أوائل الشروط اللازمة لحماية مصالح المستثمرين من أية ممارسات غير عادلة، أو غير سليمة، أو التي قد تنطوي على احتيال، أو غش، أو تدليس، أو تلاعب (الفقرة 4 من المادة الخامسة من نظام السوق المالية). (خامساً) أن جميع ما تقدّم الإشارة إليه أعلاه من اختلال قد تسبب في حرمان السوق من إدراج الشركات المساهمة المجدية استثمارياً، والشركات العائلية العريقة تاريخاً والمتينة مالياً والجيدة السمعة تجارياً، في مقابل تدافع عدداً من الشركات البائرة -دون تعميم- لتُدرج في السوق بأعلى الأثمان، تحوّلت في ظله (عملية الاكتتاب) إلى (عملية تخارج)، أفضتْ لاحقاً إلى تحقق المبدأ الاقتصادي (السلعة الرديئة تطرد السلعة الجيدة). ويكفي الإشارة هنا إلى الحقيقة الصدمة حول جدوى تلك الاكتتابات على السوق المالية، إذ وفقاً لآخر النتائج المالية للشركات المدرجة بنهاية الربع الثالث من عام 2010م لم تتجاوز مساهمة 68 شركة تم طرحها بعد فبراير 2006م في القيمة المضافة لمكاسب السوق السنوية أكثر من 2.6 في المائة، مقابل استحواذها على ما نسبته 44.6 في المائة من إجمالي الأسهم المدرجة في السوق! في المقابل ستجد أن اكتتابات ما قبل فبراير 2006م (9 شركات مساهمة فقط) وصلت مساهمتها في القيمة المضافة للمكاسب السنوية للسوق حتى نهاية الربع الثالث من العام الجاري إلى 10.1 في المائة، مقابل استحواذها على ما نسبته 4.6 في المائة فقط من إجمالي الأسهم المدرجة في السوق!! إنه فارقٌ كبيرٌ جداً بين الفريقين. (سادساً) يُضاف إلى سلّة التأثيرات السلبية أعلاه، الضرر الكبير الذي أُلحق بأسعار الشركات الجيدة استثمارياً، وامتد إلى هزِّ ثقة مجتمع المستثمرين في السوق، بدتْ شواهده واضحة للعيان عبر انخفاض الإقبال على الاكتتابات، وانخفاض قيمة التعاملات اليومية في السوق بصورةٍ أعادتنا إلى ما قبل عام 2003م. وأُضيف في هذه المحطة الرابعة إلى ما تقدّم من حصيلة المحطات السابقة: (سابعاً) لقد أصبح من الضرورة الحتمية الآن لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه، أن تتجه هيئة السوق المالية في إطار الإستراتيجية المأمولة لاجتذاب الشركات نحو الإدراج في السوق؛ أن تعتمد (زيادة) رأس المال بدلاً (اكتتابات التخارج) القائمة الآن، والتي تمنع من استلام المساهمين البائعين لمتحصلات الاكتتاب، وأن تُلزم (المتعهد بالتغطية) إكمال دوره الرئيس في عملية الطرح بدفع قيمة ما لم يتم تغطيته. (ثامناً) أعتقد أن من أهم أسباب عدم إقرار هيئة السوق المالية لتجزئة السوق (سوق رئيس، سوق موازي)، يكمن في تصورها للموقف المحرج الذي قد تواجهه بعد التجزئة، والمتمثل في أن السوق الموازي سيضم في أغلبه معظم الشركات المساهمة التي تم طرحها للاكتتاب فيما بعد فبراير 2006م، وكأن لسان الحال حينئذ سيقول (كأنك يا أبو زيد ما غزيت)؛ إذ ترى أنها ستكون غير قادرة على مواجهة معضلة طرد ما أدرجته خلال السنوات الأخيرة إلى سوقٍ موازٍ، بما يعني في حقيقته عدم توافر الأهلية الكاملة لتلك الشركات بالإدراج في السوق الرئيس! والحقُّ يقال هنا أنه رغم صحة ذلك، إلا أنه يأتي أفضل بكثيرٍ من استمرار الوضع الراهن المليء بالمساوئ والمثالب التي لا حصر لها، بل إنه سيعيد التوازن والجاذبية الاستثمارية إلى السوق المالية المحلية من خلال تمييزه بين الشركات المساهمة ذات العوائد، والأخرى الخاسرة عالية المخاطر، بصورةٍ ستفضي عبر الزمن إلى اجتذاب أفضل الشركات المساهمة خارج منصة تعاملات السوق إلى تلك المنصة. إنني أتمنى أن تجد هذه المحاور أُذناً صاغية من لدن هيئة السوق المالية، وأن تأخذها على محمل الكلمة النصوح دراسةً ومراجعة ومناقشة، وأن هذه المحاور لا تتجاوز كونها أفكاراً واجتهادات آمل إضافتها إلى أرصدة الجهود الكبيرة التي بذلتها وتبذلها للارتقاء بواقع السوق المالية المحلية، وأنها لا تخرج عن دائرة انفتاحها إعلامياً واجتماعياً على مختلف الآراء والمقترحات، التي تهدفُ إلى تحقيق روح ومقتضى الغرض الرئيس من وجودها في هيكل النظام المالي وفقاً لما نصّت عليه تحديداً المادتين الخامسة والسادسة من نظام السوق المالية، وهو ما سبق أن قامتْ به من قبل في خصوص العديد من المقترحات خلال السنوات القليلة الماضية؛ كموضوع الاعتماد على مؤشر السوق للأسهم المتاحة للتداول (المؤشر الحر)، والكشف عن ملكية كبار الملاك والإفصاح عن التغيرات فيها، وتعديل المؤشرات الأساسية للسوق باستبعاد مؤشرات الشركات الحديثة الإدراج، وغيرها من المقترحات التي وجدتْ أُذناً صاغية وعقلاً منفتحاً من لدنها، والله ولي التوفيق من قبل ومن بعد.
عضو جمعية الاقتصاد السعودية